بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره ونعود بالله تعالى من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له
واشهد أن لا اله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما
بعد فان أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي محمد صلى الله
عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم
في العالمين انك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على
إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
الحمد لله وحده، وبعد:
نعلم جميعا أن الهدف الأسمى من الصيام هو تحصيل التقوى، قال - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
والتقوى: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية. وهذه الوقاية لا تحصل بمجرد حبس النفس عن الطعام والشراب، ولكن تنال بتربية النفس عليها. لهذا كانت الأبعاد التربوية للصيام من الأمور التي ينبغي أن يتأملها المسلم. وفي هذه الوقفات ألتمس بعضا منها على شكل نقاط مختصرة.
أولاً: الصيام والتربية
1ـ وجاء عن الشهوات؛ ففي الحديث عن البخاري ومسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوَّج فإنه أحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنَّه له وجاء".
2 ـ سمو بالنفس وعلو الهمة وصلاح القلوب، قال - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
وفي الحديث عن معاذ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"الصوم جنة"رواه النسائي، ومعنى جنة، أي: حماية من كل شيء، ومنها حماية القلب.
3ـ الصبر وقوة التحمل، مع مراعاة طبيعة النفس البشرية، فالصبر عن الطعام والشراب يعين المسلم على التحمل والصبر، مما يصلح بدنه وروحه، فهو شهر الجهاد، فبعد أن ذكر الله الصيام والحج ذكر بعدها الجهاد: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ... وفيه غزوة بدر والفتح. وفيه مراعاة النفس البشرية، وذلك بعدم تحميلها ما لا تحتمل، قال - تعالى -: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ....
وفي صحيح البخاري من قصة سلمان وأبي الدرداء - رضي الله عنهما -:"إنَّ لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك ـ أو زوجك ـ عليك حقاً، فآت كل ذي حق حقه".
ومن السنة: تعجيل الإفطار وتأخير السحور، فعن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا تزال أمتي بخير ما عجَّلوا الفطر وأخروا السحور"(وفي سنده مقال). وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه"نهاهم عن الوصال".
4ـ العمرة في رمضان تعدل حجة، ففي الحديث الصحيح:"عمرة في رمضان تعدل حجة أو حجة معي". كما يستشعر المعتمر بعضا من معاني الحج في عمرته.
5ـ ترابط دعوة الرسل، قال - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ...
ولما جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجد اليهود يصومون عاشوراء قال:"نحن أحق بموسى منكم"كما ثبت في الصحيح. وعن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان) رواه أحمد، ورجاله ثقات.
6ـ تقاسم الشعور مع الفقراء والمحتاجين: فمن جاع شعر بالجياع في كل مكان في العالم، ومن تعب من الصيام والقيام شعر بتعب المضطهدين والحفاة العراة في كل مكان؛ فهذا يدعوه للصدقة، والعطف على الآخرين.
7ـ تعويد العبدِ العفوَ والصفحَ عن الآخرين: ففي الحديث"..إذا كان يوم صيام أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم"(أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
ـ وكما أنَّ الله يعفو عمَّن يأكل ويشرب نسياناً، فالعبد أحقّ أن يغفر لمن أخطأ في حقه.
8 ـ التفكر في مخلوقات الله في كونه الفسيح، حيث علق الصوم برؤية الهلال ففي الحديث"صوموا لرؤيته.."، وفي الحديث الآخر"لا تصوموا حتى تروه..".
9 ـ تعويد العبد أن يحرص على جودة العمل، إضافة إلى كثرته. ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره عن الإمام مالك ـ رحمهما الله ـ أنه بلغه"أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر هي خير من ألف شهر". وقد قال الله- تعالى -: أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ..، وليلة القدر تعدل ألف شهر، فالعبرة ليست بكثرة العمل، ولكـن بصلاحه، قال - تعالى -: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً...
10ـ تعويد المسلمِ الكرم، ففي الحديث:"من فطر صائماً فله مثل أجره".
11ـ يتربى فيه المسلم على الدعوة إلى الله، قال - تعالى -: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ.. الآية. والواقع شاهد على كثرة الداخلين في الإسلام في رمضان.
12ـ فرصة لتربية الأبناء وتعويدهم العبادة، كما في صحيح البخاري من حديث الربيِّع بنت معوذ - رضي الله عنها - في تعويد الأطفال الصيام.
13ـ تعويد المسلم القرب من الله، ففي سياق آيات الصوم ذكر الله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.. الآية، ذكر في سبب نزولها: أنَّ أعرابياً قال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل الله هذه الآية.
14ـ تعويد المسلم مراقبة الله، قال - تعالى -: عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ...
15ـ تعويد المسلم ضبط سلوكه. ففي البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
16ـ فيه تذكير للمسلم أنَّ الحياة الحقيقية هي في الجنة، ففي الحديث عند الإمام أحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطهن أمة من الأمم قبلها، خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزيد الله كل يوم جنته ويقول يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة ويصيروا إليك، وتصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصو إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة قيل يا رسول الله أهي ليلة القدر قال لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله".
17ـ تعويد المسلم صيانة لسانه، ففي الحديث المتفق عليه:"فإذا كان يوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب...."الحديث.
18ـ تربية المسلم على استشعار السعادة الحقيقية في الدنيا، وطلبها في الآخرة، ففي البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"للصائم فرحتان، فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه.."الحديث. وفي ختامه العيد؛ حيث يفرح الناس بإكمال عبادتهم، وإخراج زكاة الفطر لنشر السرور بين الفقراء.
19ـ الوفاء بحق الزوجة. ففي قصة ابن عمر - رضي الله عنهما - مع النبي - صلى الله عليه وسلم -:"ألم أخبر أنك تصوم ولا تفطر.."وفيه:"..وإن لنفسك وأهلك عليك حظا"(رواه البخاري).
20ـ تعويد النفس البذل والتضحية، قال - تعالى -: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ... وكان هذا في أول الأمر، فمن يستطيع الصوم ويريد أن يفطر فعليه الفدية (كما رواه البخاري عن سلمة بن الأكوع).
21ـ استشعار معاني الترابط الأسري في رمضان، قال - تعالى -: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ..الآية، فمما جاء في تفسيرها، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وطائفة من التابعين:"هن سكن لكم، وأنتم سكن لهن"(كما في جامع البيان للطبري).
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوقظ أهله لقيام الليل.
وصوم المرأة ـ غير الفريضة ـ لابد فيه من إذن زوجها (كما رواه البخاري عن أبي هريرة).
22ـ تعويد المسلم الدقة في مواعيده وضبط وقته، فالإفطار عند غروب الشمس، والإمساك عند الأذان، ولا يشرع تأخير الإفطار أو تقديم السحور.
ثانياً: زكاة الفطر والتربية
1ـ تعويد المسلم تصحيح أخطائه، فصدقة الفطر شرعت طهرة للصائم من اللغو والرفث، ففي الحديث (عن ابن عباس - رضي الله عنهما -) أنها:"طهرة للصائم من اللغو والرفث".
2ـ الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين والتكافل الاجتماعي، من خلال أداء هذه الفريضة،"فرض رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم ـ صدقة الفطر"(رواه البخاري ومسلم).