بسم الله الرحمن الرحيم
الغفلة عن مغبة الكلام
هناك من يطلق لسانه بالكلام دونما نظر أو مبالاة في آثاره، أو أبعاده، فتجده يطلق القول على عواهنه غير عابئ بما يجرُّه عليه من بلاء أو شقاء؛ فلربما كان سببًا في مقتله، ولربما كان سببًا في إذكاء عداوة، أو إشعال حرب، أو نحو ذلك.
قال أكثم ابن صيفي: "مقتل الرجل بين فكيه"، يعني لسانه، وقال المهلب لبنيه: "اتقوا زلة اللسان، فإني وجدت الرجل تعثر قدمه فيقوم من عثرته، ويزلُّ لسانه فيكون فيه هلاكه".
وقال الشاعر:
يصاب الفتى من عثرة لسانه وليس يصاب المرء من عثرة الرِّجل
وعثرته مَن فيه ترمي برأسه وعثرته في الرِّجل تبرا على مهل
والعرب تقول في أمثالها: "إياك وأن يضرب لسانك عنقك"، أي: إياك أن تلفظ بما فيه هلاكك.
وقال علي -رضي الله عنه-: "اللسان معيار أطاشه الجهل، وأرجحه العقل"، وقال بعض البلغاء: "الزم الصمت، فإنه يُكْسِبك صفوة المودة، ويؤمِّنك سوء المغبة، ويُلْبِسُك ثوب الوقار، ويكفيك مؤونة الاعتذار"، وقال بعضهم: "اعقل لسانك إلا عن حق توضِّحه، أو باطل تدحضه، أو نعمة تذكرها".
قال طرفة ابن العبد:
وإن لسان المرء ما لم تكن له حصاةٌ[1] على عوراته لدليل
يقول: إذا لم يكن مع اللسان عقل يحجزه عن بسطه فيما لا يحبُّ، دلَّ اللسان على عيبه بما يلفظ به من عُور الكلام.
وقال الآخر:
رأيت اللسان على أهله إذا ساسه الجهل ليثًا مغيرا
وقال عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: "زلَّة الرجل عَظْمٌ يجبر، وزلَّة اللسان لا تبقي ولا تذر"؛ بل الإنسان قد يتكلم بكلمة لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ).
ولهذا يجب على العاقل أن يخزن لسانه، وأن يزن كلامه؛ حتى لا يقع فيما لا تحمد عقباه، فيندم ولات ساعة مندم.
قال ابن المقفع: "اعلم أن لسانك أداة مصلتة، يتغالب عليه عقلك، وغضب، وهواك، فكل غالب عليه مستمتع به، وصارفه في محبته، فإذا غلب عليك عقلك فهو لك، وإن غلب عليه شيء من أشباه ما سميت لك فهو لعدوِّك، فإن استطعت أن تحتفظ به وتصونه، فلا يكون إلا لك، ولا يستولي عليه، أو يشاركك فيه عدوك فافعل".
وقال الماوردي-رحمه الله-: "واعلم أن للكلام شروطًا لا يسلم المتكلِّم من الزلل إلا بها، ولا يعرى من النقص إلا بعد أن يستوفيها، وهي أربعة شروط:
فالشرط الأول: أن يكون الكلام لداعٍ يدعوا إليه، إما في اجتلاب نفع أو دفع ضرر.
والشرط الثاني: أن يأتي به في موضعه، ويتوخَّى به إصابة فرصته.
والشرط الثالث: أن يقتصر فيه على قدر الحاجة.
والشرط الرابع: أن يتخيَّر اللفظ الذي يتكلم به.
ثم شرع -رحمه الله-: بتفصيل ذلك بكلام جميل.
وقال الزمخشري: "خير الألسن المخزون، وخير الكلام الموزون، فحدِّث إن حدَّثت بأفضل من الصمت، وزيِّن حديثك بالوقار وحسن السمت.
إن الطيش في الكلام يترجم عن خفة الأحلام، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه، وما زان المتكلِّم إلا الرزانة".
المرجع: أخطاء في أدب المحادثة والمجالسة
للشيخ: محمد بن إبراهيم الحمد