( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ).. سِلْسِلةٌ قُرْآنِيةٌ مُتَجِدِدَةٌ
(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ).. ( سورة العاديات )
(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والصلاة والسلام على نبينا وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبه وسلم
تسليما كثيرا
(سورة العاديات )
يشغب كثيرا من أعداء الدين على القرآن بخصوص مسألة البيان فيرون أن القرآن يحتوي كثيرا من السور الغامضة التي لا يفهمها حتى مشائخ الإسلام أنفسهم , وبداهة لا يعرف لها العوام مغزى أو مرادا ! ويضربون على ذلك بعض الأمثلة , وتأتي على رأس هذه الأمثلة سورة العاديات , حيث أنها تمثل النموذج المفضل لهؤلاء المشغبين من شباب الإنترنت فأصبحت مضرب الأمثال ونموذجا للتحدي , فيسأل هؤلاء : ما هو وجه البلاغة والإعجاز في هذه السورة وما هو معناها أصلا ؟
والحق يقال أن السورة تحتوي فعلا كلمتين لم نعد نستعملها هذه الأيام ولم نعد ندرك معناهما بسهولة إلا إذا رجعنا إلى المعاجم وهما " الضبح و الكند " وما عدا ذلك فهو من المعروف المتداول ولكن المشكلة أن السادة المتدبرين شغبوا على المعاني المتباردة إلى الذهن ! ولكن هل يعني هذا أن السورة غامضة أو لا تحتوي أوجها بلاغية عظيمة ؟
بداهة هم في هذا واهمون لأنهم ما تدبروا السورة وما نظروا فيها حق النظر , لذا فسنقوم متكلين على الله بالتعرض لهذه السورة لنستخرج لك عزيزي القارئ أوجها بلاغية عظيمة معان إعجازية جليلة وتقسيمات عجيبة لم تخطر على بال هؤلاء الشباب الأغرار, كما أننا سنقدم فهما جديدا في مسألة العاديات الموريات المغيرات المثيرات وحجتنا في هذا أنه لم يأت حديث صحيح مرفوع إلى النبي الكريم في معنى هذه الألفاظ , كما أن الصحابة أنفسهم والتابعون لم يجزموا فيها بمعنى , كما أن كل التفسيرات الواردة فيها لا تتطابق تمام التطابق مع النص القرآني , لذلك احتار المفسرون أيما حيرة في هذه السورة , فتراهم يعرضون الأقوال ولا يستطيعون أن يجزموا فيها بشيء ! لذا فإننا عندما نقدم الجديد لا نكون قد خالفنا إجماعا أو رأيا محتما وإنما نقدم فهما جديدا للنصوص يتطابق مع الألفاظ الواردة في السورة ويجعل السورة كلها وحدة واحدة ذات معنى عظيم .
وعلى عكس المألوف في تعاملنا مع سور القرآن فإنا سنقوم بتقديم التقسيم البلاغي للسورة قبل تعرضنا لها , ونقدم كذلك بعض الأوجه البلاغية ثم نبدأ في التعليق على السورة الكريمة :
نلاحظ أن مبنى هذه السورة الكريمة كلها قائم على الحدث الفردي والتتابع الثنائي له ! وننظر في السورة الكريمة لنر بأعيننا :
فإذا نحن نظرنا في أول السورة وجدنا أن الله تعالى يقسم ب " العاديات ضبحا " فهذا مقسم به فردي , ثم بعد ذلك يأتي وصف تابع لهذا المقسم به وهذا الوصف وصف ثنائي ( موريات قدحا , مغيرات صبحا ) , ثم يأتي بعد ذلك توصيف بالفعل لهذا المقسم به وهو توصيف ثنائي كذلك ( أثرن به نقعا , وسطن به جمعا ) , ثم يأتي بعد ذلك المقسم عليه , فالله أقسم بالعاديات الموصوفة وصفا ثنائيا مثنى ( وصف بالاسم وبالفعل !) والمقسم عليه قوله تعالى " إن الإنسان لربه لكنود " , ونجد كذلك أن التتابع الثنائي يصدق في جواب القسم , فنجد أن الجواب جوابان وهما قوله تعالى " إن الإنسان لربه لكنود " وكذلك " إن ربهم بهم يومئذ لخبير " .
فإذا نحن نظرنا في المقسم عليه وجدنا أن ما يصدق على المقسم به يصدق كذلك في المقسم عليه ! فسنجد أن المقسم عليه وهو " إن الإنسان لربه لكنود " موصوف بوصف ثنائي بقوله " وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد " ثم بعد ذلك تعلق بجملتين فعليتين وهما قوله تعالى " أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور " . فانظر أخي في الله إلى هذا التقسيم العجيب :
آية يتعلق بها آيتين اسميتين وآيتين فعليتين ثم يتعلق بها إثنان من المقسم عليهما ! ثم نأتي إلى المقسم عليه الأول فنجد أنه كذلك موصوف بجملتين اسميتين ومتعلق به جملتان فعليتان !
فإذا نجن عرضنا لبعض الأوجه البلاغية في السورة نجد التالي :
تقارب بين الضبح والصبح ! وبين العاديات والموريات !
سجع بين " ضبحا و قدحا و صبحا "
سجع بين قوله تعالى " نقعا و جمعا " وقوله " كنود و شهيد و شديد " وكذلك قوله " القبور و الصدور و خبير "
" فأثرن به " وفي الآية التالية " فوسطن به "
تقابل بين البعثرة والتحصيل " بعثر ما " و " حصل ما "
وبعد هذا العرض السريع للتقسيم البديع لهذه السورة الكريمة نبدأ الآن في التعامل مع هذه السورة :
المشهور بين المفسرين أن السورة تدور حول الخيول أو الجمال , ولم نر على حد علمنا تفسيرا آخر للعاديات ! ولكنا نرى أن العاديات ليس لها أي علاقة لا بالخيل ولا بالإبل , وإن كل ما في الأمر هو تقاطع جزئي لمدلولات الآيات مع مدلولات هذه الألفاظ , ونبدأ بتقديم تصورنا للسورة :
تبدأ السورة بقوله تعالى " والعاديات ضبحا " فما هي العاديات وما هو الضبح ؟ العاديات جمع عادية , والعادية اسم فاعل مؤنث من عدو , فما هو ال عدو ؟
إذا نحن نظرنا في المقاييس وجدنا أنه يأتي بالمعنى التالي :
" العين والدال والحرف المعتل أصلٌ واحدٌ صحيحٌ يرجع إليه الفروعَ كلّها، وهو يدلُّ على تجاوُزٍ في الشيء وتقدُّمٍ لما ينبغي أن يقتصر عليه. من ذلك العَدْو، وهو الحُضْر. تقول: عدا يعدو عَدْواً، وهو عادٍ. قال الخليل: والعُدُوُّ مضموم مثقّل، وهما لغتان: إحداهما عَدْو كقولك غَزْو، والأُخرى عُدُوّ
كقولك حُضور وقُعود. قال الخليل: التعدّي: تجاوز ما ينبغي أن يُقْتَصَر عليه.
والعادي: الذي يعدو على الناس ظُلْماً وعُدواناً.
وفلانٌ يعدو أمرَكَ، وما عَدَا أنْ صَنَع كذا............. وتقول: ما رأيت أحداً ما عدا زَيْداً. قال الخليل: أي ماء جاوَزَ زيداً. ويقال: عدا فلانٌ طَورَه.
ومنه العُدْوانُ، قال: وكذلك العَدَاء، والاعتداء، والتعدِّي. .........
قال: والعُدْوان: الظلم الصُّراح . والاعتداء مشتقٌّ من العُدْوَان . فأمَّا العَدْوَى فقال الخليل: هو طلبك إلى والٍ أو قاضٍ أن يُعدِيَك على مَن ظَلَمك أي يَنقِم منه باعتدائه عليك. والعَدْوَى ما يقال إِنّه يُعدِي، من جَرَبٍ أو داء . وفي الحديث: "لا عَدْوَى ولا يُعدِي شيء شيئاً". والعُدَاء كذلك . وهذا قياسٌ، أي إذا كان به داء لم يتجاوزْه إليك. والعَدْوَة عَدوَة اللّصّ وعدوة المُغِير. يقال عدا عليه فأخَذَ مالَه، وعدا عليه بسيفه: ضَرَبه لا يريد به عدواً على رجليه، لكن هو من الظُّلم.
وأما قوله : فإنّه يريد أنّها تجاوَزَتْ حتَّى شغلت. ويقال: كُفَّ عنا عادِيتَك.
والعادية: شُغل من أشغال الدَّهر يَعدُوك عن أمرك، أي يَشغلُك.والعَدَاء: الشُّغْل. ....... وقد يقال العُِدْوة في معنى العَداء، وربما طُرحت الهاء فيقال عِدْوٌ، ويُجمَع فيقال: أعداء النّهر، وأعداء الطريق. قال:
ونقول: عَدَّى [عن الأمر] يعدِّي تعديةً، أي جاوزَه إلى غيره .
وعدّيت عنِّي الهَمَّ، أي نحّيته عنِّي. وعدِّ عنِّي إلى غيري.
وعَدِّ عن هذا الأمر، أي تجاوَزْه وخُذ في غيره. قال النابغة:
فعدِّ عمّا ترى إِذْ لا ارتجاعَ لـه وانمِ القُتود على عَيرانةٍ أُجُدِ
وتقول: تعدّيت المفازةَ، أي تجاوزتُها إلى غيرها. .......... " اهـ
إذا فالله تعالى يقسم بالعاديات وهي كما قلنا جمع عادية , وهي اسم فاعل مؤنث من العدو, فهل من الممكن أن تكون بمعنى الطامة أو الظالمة أو الغاشية ؟ كما ورد في المقاييس ؟
بداهة هذا المعنى غير مراد على الإطلاق , فالله تعالى لا يقسم بما فيه ضرر وظلم للناس وإنما ينبهم إلى ما فيه كل الخير . فما المراد من العادية هنا إذا ؟ هي كلمة كثيرة المعاني ولكنها تدور كلها بين سرعة الحركة والاعتداء ! فما هو المراد من العاديات في هذه السورة عند استبعاد مدلول الاعتداء؟ الملاحظ أن السادة المفسرين قاطبة يكادون يجمعون أن المراد من العاديات هو الخيل أو الإبل ويستندون في ذلك إلى ما ورد في الأثر :
" ما روى عن علي عليه السلام وابن مسعود أنها الإبل ، وهو قول إبراهيم والقرظي روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : «بينا أنا جالس في الحجر إذ أتاني رجل فسألني عن العاديات ضبحاً ، ففسرتها بالخيل فذهب إلى علي عليه السلام وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت ، فقال : ادعه لي فلما وقفت على رأسه ، قال : تفتي الناس بما لا علم لك به ، والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر وما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد والعاديات ضبحاً الإبل من عرفة إلى مزدلفة ، ومن المزدلفة إلى منى ، يعني إبل الحاج ، قال ابن عباس : فرجعت عن قولي إلى قول علي عليه السلام» اهـ
وقيل أن المراد من ذلك الخيل , وهذا ما رجحه الإمام الفخر الرازي في تفسيره حيث قال : " واعلم أن ألفاظ هذه الآيات تنادي أن المراد هو الخيل ، وذلك لأن الضبح لا يكون إلا للفرس ، واستعمال هذا اللفظ في الإبل يكون على سبيل الاستعارة ، كما استعير المشافر والحافر للإنسان ، والشفتان للمهر ، والعدول من الحقيقة إلى المجاز بغير ضرورة لا يجوز ، وأيضاً فالقدح يظهر بالحافر مالا يظهر بخف الإبل ، وكذا قوله : { فالمغيرات صُبْحاً } لأنه بالخيل أسهل منه بغيره ، وقد روينا أنه ورد في بعض السرايا ، وإذا كان كذلك فالأقرب أن السورة مدنية ، لأن الإذن بالقتال كان بالمدينة ، ... " اهـ
والذي يعجب منه المرء عند النظر في هذه السورة بالذات أن المفسرين ابتعدوا كثيرا عن المعاني المباشرة للألفاظ فخصصوا وعمموا وخالفوا وغيروا وكل هذا في آيات قلائل , وسيلحظ القارئ هذا بنفسه , فعلى سبيل المثال يقول الفخر الرازي في هذه الآية " وذلك لأن الضبح لا يكون إلا للفرس ، " اهـ
فإذا نحن نظرنا في المقاييس بحثا عن الضبح وجدنا التالي :
" الضاد والباء والحاء أصلانِ صحيحان : أحدهما صوتٌ، والآخَرُ تغيُّرُ لون من فعلِ نار. فالأَوَّل قولُهم: ضَبَحَ الثّعلبُ يَضْبَح ضَبْحاً. وصَوْتُهُ الضُّبَاح، وهو ضابح. قال: دعوتُ ربِّي وهو لا يُخَيِّبُ بأنَّ فيها ضابحاً ثعَيلِب , فأمَّا قولُه تعالى: { وَالعَادِيَاتِ ضَبْحاً } [العاديات 1]. فيقال هو صوتُ أنفاسها، وهذا أقيَسُ، .... وأمَّا الأصل الثاني فالضَّبْح: إحراقُ أعالي العُود بالنار. والضِّبْح: الرَّماد. والحجارة المضبوحة هي قَدَّاحة النّار، التي كأنها محترقة. قال: والمرْوَ ذَا القَدَّاحِ مضبوحَ الفِلَق , ويقال الانضباح تغيُّرُ اللون إلى السواد. " اهـ
فإذا كان هذا هو المعنى اللغوي العام لهاتين الكلمتين فما هو المراد من هذه الآيات ؟
الملاحظ في هذه الآية أن الله عزوجل استعمل وصفا عاما " العاديات " ولكنه خصصه بمخصصات عدة , لا بد لمن يستخرج معنى العاديات أن يثبت تطابق هذه الأوصاف مع المدلول تطابقا كليا , ( وهذا ما لا نجده بأي حال في أقوال المفسرين ) , فإذا نحن طبقنا منهج المفسرين في التجزئة والتقطيع فيمكننا القول نجد أن الوصف من أول السورة يدور في فلك الاعتداء ( لذا فلا يتناسب أبدا هنا القول بأن المراد من العاديات هو الجمال في حال الحج ) فمن الممكن أن يتناسب هذا الوصف ينطبق على معداتنا الحربية الحديثة أكثر منه انطباقا على الخيل والجمال , فمعداتنا هي التي تضبح ( تحدث أصواتا وتغير لون من فعل نار فتخرج دخانا ) وهو توري أقداحا وتغير صبحا وتثير النقع وتتوسط الجمع ! , وسيرى القارئ الكريم من خلال تعرضنا للسورة الكريمة ومن خلال تحليلنا لمفرداتها كيف أن هذا الوصف ينطبق على المعدات الحربية الحديثة . ولكنا لا نقول بهذا القول , لأنه يؤدي إلى تجزئة الآيات وتقطيعها وعدم وجود أي معنى إجمالي متصل من أول السورة إلى آخرها . ( ولا يعجب القارئ من هذا فيقول : وما علاقة أسلحة الحرب التي تجلب الدمار بنكران النعم وقطع الشكر ؟ نقول : قل هذا لمن قال أن الله أقسم بالخيل أو الجمال التي تعدو فتهجم على المخالفين في حال الصبح لأن هذا هو الوقت هو وقت غفلة وذهول , فهم قطعوا السورة وعضوه ولم يروا في ذلك بأسا , أما نحن فعلى الرغم من أن التطابق بين قولنا في الآلات الحربية أكثر من تطابق الخيل والإبل مع الآيات فإنا لا نقول به لأنه ينسف الوحدة الموضوعية والصورة العامة للسورة !
إذا فما هو المراد من العاديات ؟
العاديات المرادة في هذه الآيات من خلال التوصيف الرحماني لها هي السحب الثقال المحملة الممطرة , لأننا إذا طبقنا باقي الأوصاف على أي معنى آخر فلن نجد تطابقا كليا , ( من الممكن القبول أنها الرياح , ولكن التطابق لا يكون تاما ) أما مع السحب فستجد تطابقا تاما كاشفا للألغاز التي أوقعنا فيها المفسرون عند قولهم بالأقوال الأخرى , وابدأ معي عزيزي القارئ في تتبع هذه الأوصاف :
العاديات: السحب عاديات أبد الدهر ولا تتوقف, بخلاف غيرها والذي قد يعدو ويتوقف. ضبحا : الضبح كما قلنا هو " صوت وتغير لون ناتج عن نار كما جاء في المقاييس " , فإذا نحن نظرنا في حال السحب الثقال حال عدوها وجدنا معها صوتا وهو صوت الريح الناقل لها وكذلك صوت الرعد الخارج منها , كما أن فيها تغير لون فالسحب تتغير ألوانها وكلما أثقلت السحب اتجها لونها إلى اللون الداكن , إذا فهذه هي العاديات ضبحا السحب المثقلة المحملة بالأمطار والمليئة بالرعود والبروق .
ثم يخصصها الله عزوجل بوصفين آخرين ( لا بد أن يتطابقا تماما مع السحب كذلك ) والوصف الأول منهما أنها بعد أن كانت عادية ضبحا أنها أوريت قدحا .
والملاحظ أن المفسرين قاطبة غفلوا عن حرف الفاء , فلم يشر أحد منهم إلى فائدته في هذه السورة , فجعلوا مراد الله " والعاديات ضبحا والموريات قدحا " , فما هو الإيراء وما هو القدح ؟
هذان اللفظان من الألفاظ المستعملة والمعروفة وسنذكر القارئ الكريم بمعنيهما الذي ربما قد غفل أوذهل عنه : لقد قال الله تعالى في كتابه الكريم " أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ [الواقعة : 71] " إذا فالإيراء معروف وهو إخراج النار , وهو يختلف في المعنى عن الإيقاد , فالإيراء إخراج نار عن طريق احتكاك وليس عن طريق الإشعال المباشر , ويمكننا أن نسهل الأمر للقارئ : إشعال عود الثقاب يعتبر نوع من الإيراء , وعندما يوضع الثقاب المحترق في الورق مثلا فهذا إيقاد وإشعال ! ضرب حجرين ببعضهما هو نوع من الإيراء .
إذا فالله تعالى أقسم بالعاديات ضبحا والتي تنتقل من هذا الحال إلى حال آخر وهو إيراء القدح , فما هو القدح ؟
القدح معروف المعنى , فإذا نحن نظرنا في المقاييس وجدنا التالي :
" القاف والدّال والحاء أصلانِ صحيحان، يدلُّ أحدهما على شيءٍ كالهَزْم في الشيء، والآخر يدلُّ على غَرْفِ شيء. فالأوَّل القَدْح: فِعْلُك إذا قَدَحْت الشيء. والقَدْح: تأكُّلٌ يقع في الشَّجرِ والأسنان. والقادحة: الدُّودة تأكل الشَّجرة. ومنه قولهُم: قدَحَ في نَسَبه: طَعَن. ..... ومنالباب: قَدَّحَتِ العينُ: غارت. ويقال قَدَحَتْ. وقَدَحْتُ النَّار، وقَدحتُ العين: أخرجتُ ماءَها الفاسد. والأصل الآخر القَدِيح: ما يبقى في أسفل القِدْر فيُغرَف بجُهْد. " اهـ
وجاء في لسان العرب " ...... وقَدَحَ بالزَّنْدِ يَقْدَحُ قَدْحاً واقْتَدَح: رام الإِيراءَ به.
والمِقْدَحُ والمِقْداحُ والمِقْدَحَةُ والقَدَّاحُ، كله: الحديدة التي يُقْدَحُ بها؛ وقيل: القَدَّاحُ والقَدَّاحة الحجر الذي يُقْدَحُ به النار؛ وقَدَحْتُ النارَ. الأَزهري: القَدَّاحُ الحجر الذي يُورى منه النار؛ قال رؤبة: والمَرْوَ ذا القَدَّاحِ مَضْبُوحَ الفِلَقْ والقَدْحُ: قَدْحُك بالزَّنْد وبالقَدَّاح لتُورِيَ؛ الأَصمعي: يقال للذي يُضْرَبُ فتخرج منه النار قَدَّاحة......... " اهـ
إذا فالسحب توري عن طريق القدح وهو الاحتكاك لإخراج النار وهذا ما يقول به العلم الحديث , فهناك سحب ذات شحن سالبة وأخرى موجبة وعند الاحتكاك يحدث الإيراء فينزل المطر ويظهر البرق !
وقارن عزيزي القارئ بين هذا القول وبين من يقول أن المراد من ذلك هو
" فاعلم أن الإيراء إخراج النار ، والقدح الصك تقول : قدح فأورى وقد فأصلد ، ثم في تفسير الآية وجوه أحدها : قال ابن عباس : يريد ضرب الخيل بحوافرها الجبل فأورت منه النار مثل الزند إذا قدح ، وقال مقاتل : يعني الخيل تقدحن بحوافرهن في الحجارة ناراً كنار الحباحب والحباحب اسم رجل كان بخيلاً لا يوقد النار إلا إذا نام الناس ، فإذا انتبه أحد أطفأ ناره لئلا ينتفع بها أحد . فشبهت هذه النار التي تنقدح من حوافر الخيل بتلك النار التي لم يكن فيها نفع ومن الناس من يقول : إنها نعل الحديد يصك الحجر فتخرج النار ، والأول أبلغ لأن على ذلك التقدير تكون السنابك نفسها كالحديد وثالثها : قال قوم : هذه الآيات في الخيل ، ولكن إبراؤها أن تهيج الحرب بين أصحابها وبين عدوهم " اهـ
ثم ننتقل إلى التوصيف الرحماني الثاني لحالة السحاب وهي أنها بعد ذلك تغير صبحا ! والذي قد يرى فيه البعض ردا على ما نقول ولكنا نرى فيه تأكيدا لما نقول , فالسحب هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يغير صبحا ! أما ما عداها فلا يمكن له ذلك ولا يتحقق فيه أبدا .
فإذا نحن نظرنا في أقوال السادة المفسرين وجدناهم يقولون : " يعني الخيل تغير على العدو وقت الصبح ، وكانوا يغيرون صباحاً لأنهم في الليل يكونون في الظلمة فلا يبصرون شيئاً ، وأما النهار فالناس يكونون فيه كالمستعدين للمدافعة والمحاربة ، أما هذا الوقت فالناس يكونون فيه في الغفلة وعدم الاستعداد . وأما الذين حملوا هذه الآيات على الإبل ، قالوا : المراد هو الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى ، والسنة أن لا تغير حتى تصبح ، ومعنى الإغارة في اللغة الإسراع ، يقال : أغار إذا أسرع وكانت العرب في الجاهلية تقول : أشرق ثبير كيما نغير . أي نسرع في الإفاضة . " اهـ
فعلى فهمهم هذا فإن الله تعالى يقسم بحدث انقرض منذ مئات السنين ولم يعد له فائدة ,ويعني أنه لو أغارت نهارا أو ليلا فلا عبرة فيها ! بغض النظر على أنه فعل ضرر وظلم وغدر فليس هذا من القتال في الإسلام في شيء , حيث ينبغي علينا أن نعلم المقاتل بقتالنا له ولا نأخذه هكذا غيله , فكيف يقسم الله عزوجل بالحرام ؟!!
ثم إن الملاحظ أن الخيل أو الإبل لا يمكن أن تغير صبحا أبدا ! , من الممكن أن تغير بالصبح أو في الصبح أو صباحا , ( وراجع الفرق في المعنى عند استعمال حرف الباء و " في " في الزمان في موضوع " قرى قوم لوط على الموقع ) , أما أن تغير صبحا فهذا معناه أنها هي أصبحت كالصبح ! وليوضح لي السادة المفسرون كيف يتحول الخيل إلى النور والإحمرار !
أما في حالة القول أن المراد من ذلك هو السحب فيكون المعنى هو أن السحب المثقلة بعد عدوها واحتكاكها وايراءها تغير مضيئة عن طريق البرق وبذلك تكون هي نفسها صبحا بغض النظر عن الوقت التي تغير فيها ! كما أنها ببرق أو بدونه من الممكن اعتبارها صبحا لأن السحب تكون في الغالب بيضاء فمن الممكن النظر إليها من هذا المنظور أيضا كالصبح !
ثم بعد ذلك انتقل الله عزوجل إلى وصف فعل هذه العاديات , فبعد أن كان يصف حالها وتنقله وتغيره انتقل إلى وصف فعلها , فقال " فأثرن به نقعا "
من المعضلات التي واجهها السادة المفسرون في هذه السورة مسألة عود الضمير في هذه الآية " فأثرن به " وفي الآية التالية " فوسطن به " فما هو عود الضمير فيهما ؟
اختلف المفسرون كالعادة أيما اختلاف لعدم تطابق الصورة التي يقدمونها مع المنظور القرآني فحيروا وتحيروا ! فقالوا كما جاء في تفسير الرازي :
" الضمير في قوله : { به } إلى ماذا يعود؟ فيه وجوه أحدها : وهو قول الفراء أنه عائد إلى المكان الذي انتهى إليه ، والموضع الذي تقع فيه الإغارة ، لأن في قوله : { فالمغيرات صُبْحاً } دليلاً على أن الإغارة لا بد لها من وضع ، وإذا علم المعنى جاز أن يكنى عما لم يجز ذكره بالتصريح كقوله : { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] وثانيها : إنه عائد إلى ذلك الزمان الذي وقعت فيه الإغارة ، أي فأثرن في ذلك الوقت نقعاً وثالثها : وهو قول الكسائي أنه عائد إلى العدو ، أي فأثرن بالعدو نقعاً ، وقد تقدم ذكر العدو في قوله : { والعاديات } ." اهـ
وهناك من قال أن عود الضمير على الإيراء لأنه يحدث من خلال العدو أن يثير الخيل التراب !
والعجيب أن النقع معناه معروف ومتبادر إلى الذهن , ولكن السادة المفسرون كان لهم رأي آخر , فيرجح الرازي والمفسرون عامة أن النقع هو التراب !! :
" في النقع قولان : أحدهما : أنا هو الغبار وقيل : إنه مأخوذ من نقع الصوت إذا ارتفع ، فالغبار يسمى نقعاً لارتفاعه ، وقيل : هو من النقع في الماء ، فكأن صاحب الغبار غاص فيه ، كما يغوص الرجل في الماء والثاني : النقع الصباح من قوله عليه الصلاة والسلام : « مالم يكن نقع ولا لقلقة » أي فهيجن في المغار عليهم صياح النوائح ، وارتفعت أصواتهن ، ويقال : ثار الغبار والدخان ، أي ارتفع وثار القطا عن مفحصه ، وأثرن الغبار أي هيجنه ، والمعنى أن الخيل أثرن الغبار لشدة العدو في الموضع الذي أغرن فيه ." اهـ
فإذا نحن نظرنا في المقاييس وجدنا أن النقع هو كما يتبادر إلى ذهن كل منا :
" النون والقاف والعين أصلانِ صحيحان: أحدهما يدلُّ على استقرارِ شيءٍ كالمائعِ في قراره، والآخر على صوتٍ من الأصوات . فالأوّل نَقَع الماء في مَنْقعه: استقرّ. واستَنْقع الشيءُ في الماء. والنَّقُوع: ما نُقِع في الماء، كدواءٍ أو نبيذ. والمِنْقَع ذلك الإناء. والمِنْقَع كالقُدَيرة للصَّبيّ يُطرح فيه اللَّبن ويُطعَمه.
ويقال له مِنْقَع البُرَم، ويكون من حجارة. والنَّقيع: شراب* يتَّخَذ من زَبيب، كأنَّ الزَّبيب يُنقَع لـه. والنَّقِيع: الحَوْض يُنقَع فيه التَّمر. والنَّقِيع والنَّقْع: الماء الناقع.
وماءٌ ناقعٌ كالنَّاجع، كأنَّه استقرَّ قرارَه فكَسَر الغُلَّة. وكذلك النَّقُوع. والنَّقيع: البئر الكثيرة الماء. ونَقْع البئر الذي جاء في الحديث: ماؤها، كأنها قرارٌ له.
والأنقوعة: وَقْبَةُ الثَّرِيد. ....... والنَّقيعة: المحض من اللَّبن. ..... ويقال: بل النَّقيعة: الطَّعام يُتَّخَذ للقادم من السفر، كأنّه إذا أُعِدّ لـه فقد نقع أي أُقِرّ.
وهذان الوجهان أحسَنُ ما قيل في ذلك، لأنَّهما أقْيَس.
ويقولون: النَّقيعة: الجَزُور تُنقَع عَن عدّة إبل، كالفَرَعةِ تُذبَح عن غَنَم.وأمَّا الأصل الآخر فالنَّقيع: الصُّرَاخ، وهو النَّقْع أيضاً.
ونقَعَ الصوتُ: ارتفَعَ. قال:
فمتَى يَنْقَعْ صُرَاخٌ صادقٌ يَحلِبُوها ذاتَ جَرسٍ وزَجَلْ " اهـ
إذا فالمعنى الأعم والغالب للنقيع هو النقع , أما ذلك الأصل الآخر والذي بمعنى الصوت فليس متبادرا لذا يبعد أن نحمل عليه المعنى , كما أن السياق يجعله مستبعدا !
ونعود إلى الضمير فما هو عود الضمير ؟ إذا نحن نظرنا في الآيات وجدنا أن الإمكانية الوحيدة لعود الضمير هو قوله تعالى " قدحا " أي أن السحب المغيرة تثير بهذا القدح والذي يترتب عنه كما قلنا برق ( مغيرات صبحا ) فالعاديات أثارت بالقدح نقعا وهو الماء المنقوع والموجود في السحاب بشكل من الأشكال , فمن خلال هذا القدح يثار النقع ! ثم بعد ذلك تأتي النتيجة المنطقية وهي قوله تعالى " فوسطن به جمعا " أي أن النقع والذي هو المطر الذي أنزل من السحاب يتوسط الجمع أي جمع كان , فنرى أن الماء ينزل ويصل إلى أي جمع لا حجزه حاجز فيعمه وينفعه ! ( ومن الممكن القول أن المراد من النقع المثار هو الماء الموجود على الأرض فعندما ينزل الماء من السماء يزيد الماء الموجود على الأرض فيسيل فيتوسط الجمع ومن المعروف أن الماء أو السوائل عامة لا تكون في الأطراف أو المرتفعات وإنما تتوسط بين العوالي ! )
أما المفسرون فاختلفوا كالعادة في عود الضمير , فخصصوا بأدلة ما أنزل الله بها من سلطان وأضافوا كلمات ليس لهم بها علم , لذا نجدهم يقولون :
" قال الليث : وسطت النهر والمفازة أسطها وسطاً وسطة ، أي صرت في وسطها ، وكذلك وسطتها وتوسطتها ، ونحو هذا ، قال الفراء : والضمير في قوله : { بِهِ } إلى ماذا يرجع؟ فيه وجوه أحدها : قال مقاتل : أي بالعدو ، وذلك أن العاديات تدل على العدو ، فجازت الكناية عنه ، وقوله : { جَمْعاً } يعني جمع العدو ، والمعنى صرن بعدوهن وسط جمع العدو ، ومن حمل الآيات على الإبل ، قال : يعني جمع منى وثانيها : أن الضمير عائد إلى النقع أي : وسطن بالنقع الجمع وثالثها : المراد أن العاديات وسطن ملبساً بالنقع جمعاً من جموع الأعداء . "اهـ ولست أدري ما أدلتهم على تخصيص قول الله عزوجل الذي أورده عاما , فجعلوه هم خاصا في مواقف أخص !!!
فانظر عزيزي القارئ إلى هذه الصورة البلاغية البديعة التي تقدمها السورة :
سحب تعدو مصدرة صوتا ثم تجتمع هذه السحب الكثيفة المثقلة فتحتك فتوري من خلال هذا الاحتكاك فيكون برق وبذلك تضيء هذه السحب وتصبح صبحا بالنسبة للناس وبهذا الاحتكاك والقدح تثار ذرات المياة الموجودة والراكدة في السحب فتنزل فتتوسط الجمع من نبات أو حيوان أو بشر ! فانظر إلى عرض الله لنعمه على بني البشر ثم بعد ذلك يكون ردهم هو الجحد والنكران , لذا يكون من المنطقي أن تأتي الآية التالية معلقة على موقف الإنسان من ربه الذي أغرقه في هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى فتقول " إن الإنسان لربه لكنود "
أما على قول السادة المفسرين فلست أدري ما وجه إيراد هذه الآية ؟! فالآيات السابقات على زعمهم تتحدث عن فعل جاهلي مخالف لتعاليم الإسلام ! فهل من المعقول أن يندد الله بعد ذلك بفعل الإنسان قائلا " إن الإنسان لربه لكنود " , بعد هذا المذكور على قولهم لا بد أن يكون هذا هو الفعل الطبيعي من الإنسان ولا يعترض عليه !!!
أما على قولنا نحن فإن الله تعالى يذكر نعمه على الإنسان ويعددها عليه وكيف أنه يقابلها بالكنود , فما هو الكند ؟
الكند كما جاء في المقاييس :
" الكاف والنون والدال أصل صحيحٌ واحد يدلُّ على القَطْع. يقال كَنَدَ الحبْلَ يكنُده كَنْداً. والكَنُود الكفور للنِّعمة. وهو من الأوَّل، لأنَّه يكنُد الشكر، أي يقطعُه. ومن الباب: الأرضُ الكَنود، وهي التي لا تُنبِت. " اهـ
ونلاحظ أن الكند قريب من العند والفارق بينهما في المعنى طفيف ! إذا فالله يذكر للإنسان نعمه عليه والتي تقابل منه بكفر النعمة وعدم الشكر عليها !
ثم يؤكد الله تعالى للإنسان ويذكره بشهادته على ذلك فيقول " وإنه على ذلك لشهيد " . ونجد هنا أن السادة المفسرين اختلفوا في الضمير في " إنه " فمنهم من قال أن الضمير يعود على الإنسان ومنهم من قال أنه يعود على الله تعالى . والعجيب أنهم لم يختلفوا تقريبا حول " ذلك " فقالوا أن المراد من ذلك هو الكنود ! بحجة أن العود هو على أقرب المذكورات !
والذي أراه أنا أن الضمير في " إنه " لا بد أن يعود على الإنسان لأن الحديث عنه في الآية السابقة وكذلك في التالية , فمن الأولى أن يستمر الكلام على وتيرة واحدة بدلا من القول بوجود القطع والاعتراض , فما الدليل على قطع الكلام وعلى أن هذه الجملة جملة اعتراضية , حتى نعود بالضمير على الله عزوجل ؟ كما أن عود الضمير هنا على الإنسان أولى ليقابله في آخر السورة " إن ربهم بهم يومئذ لخبير " فالإنسان شهيد على نعم الله والله خبير بعباده ! إذا فالضمير في " إنه " عائد على الإنسان , فما المراد من ذلك ؟ هل هو الكنود ؟ الذي أراه أن المراد من " ذلك " هو الآيات السابقات والنعم التي أغدقها الله عليه , وبهذا يستقيم المعنى فالآية السابقة تتحدث عن كفر الإنسان للنعمة وعدم شكره عليها والتالية تنبه على أنه شهيد على هذه النعم وعلى الرغم من ذلك فهو لا يشكر ! وبذلك يحدث تقابل بين معرفة النعمة ومشاهدتها وبين كفرها وعدم الشكر عليها أما القول بأن المراد من " ذلك " الكنود فبعيد , فكيف يكون الإنسان شاهدا على كنوده ؟!
ثم يواصل الله تعالى توصيف الإنسان الكافر لنعمته المتناقض مع نفسه " وإنه لحب الخير لشديد " قال السادة المفسرون أن المراد من الخير هو المال , ولكن هذا تخصيص ما أنزل الله به من سلطان , الخير هو الخير وهو اسم عام يدخل تحته المال وكل منفعة للإنسان , أما التخصيص بالمال فهذا ما لا يصح .
ونلاحظ أن الله تعالى ينبه بهذه الآيات الثلاث على تناقض فعل الإنسان , فهو يكفر نعمة الله وينكر فضله عليه على الرغم من وضوحه أمام عينيه ثم على الرغم من ذلك هو محب شديد للخير , فكيف يتفق هذا مع تصرفه ؟
إن الخير كل الخير هو في استمراره , أما الخير القليل المنقطع الذي يورث شرا فلا خير فيه , بل هو ابتلاء وأذى وشر , فإذا كان الإنسان محبا للخير حقا فعليه أن يفعل العكس وهو أن يشكر الله على نعمائه وبذلك يستمر الخير الذي يحبه ويصبح من الفائزين في الدنيا والآخرة !
ثم ينتقل الله تعالى إلى التخصيص الفعلى الثنائي لهذا الإنسان فينبه بآيتين فعليتين فيقول : " أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور " , فينبه الله تعالى هذا الإنسان المحب للخير المستكثر في جمعه الدافع للشر عنه إلى أن مصيره وآخرته هو إلى الموت والدفن في القبر مع غيره من الأموات .
وأكثر المفسرين إن لم يكن كلهم يرون أن هذا حادث يوم القيامة ولكني أرى أن هذا التوصيف في الدنيا يراه الإنسان بعينه ثم يمر به بعد ذلك .فلقد قال المفسرون في ذلك كما جاء في تفسير الفخر الرازي :
" لقائل أن يسأل لم قال : { بُعْثِرَ مَا فِى القبور } ولم يقل : بعثر من في القبور؟ ثم إنه لما قال : { ما في القبور } ، فلم قال : { إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ } ولم يقل : إن ربها بها يومئذ لخبير؟ الجواب عن السؤال الأول : هو أن ما في الأرض من غير المكلفين أكثر فأخرج الكلام على الأغلب ، أو يقال : إنهم حال ما يبعثون لا يكونون أحياء عقلاء بل بعد البعث يصيرون كذلك ، فلا جرم كان الضمير الأول ضمير غير العقلاء ، والضمير الثاني ضمير العقلاء . "اهـ
أما نحن فنقول أن الله تعالى يذكر الإنسان بحال من يراه في القبور , فعندما نذهب لدفن أي عزيز علينا أو عندما تُنقل المقابر أو لأي سبب كان يكون الإنسان في المقابر يرى عملية البعثرة لما في القبور حيث تُحرك عظاما وتوضع جثث أو تنقل تماما أو أو ... , وهنا يتناسب استعمال " ما " مع ما في القبور لأنها عبارة عن عظام نخرة وجثث عفنة أما يوم القيامة فيخرج الناس من الأجداث سراعا كما هم أناسا بالغين !
كما أن القول بأن هذا التوصيف في الدنيا مؤذن بالمقابلة بين الخير الذي أتى وخرج من العاديات والخراب والدمار والهلاك الذي يكون في القبور والذي أشار الله تعالى إليه من خلال قوله " بعثر "
و" حصل ما في الصدور " , والتحصيل معروف ونحن نستعمله في أيامنا هذه استعماله الصحيح ونلاحظ هنا وجود مقابلة بين البعثرة والتحصيل . والتحصيل كما جاء في المقاييس :
" الحاء والصاد واللام أصلٌ واحد منقاس، وهو جمع الشيء، ولذلك سمِّيت حَوصلةُ الطائر؛ لأنّه يجمع فيها. ويقال حصَّلت الشيءَ تحصيلا.
وزعم ناسٌ من أهل اللغة أنّ أصل التحصيل استخراجُ الذهب أو الفضّة من الحجر أو من تراب المَعدِن؛ ويقال لفاعله المحصِّل. قال:
ألا رجلٌ جزاهُ الله خيراً يدلُّ على محصِّلة تُبِيتُ ........ " اهـ
والسادة المفسرون اختلفوا في معنى التحصيل هذا فقالوا :
" قال أبو عبيدة ، أي ميز ما في الصدور ، وقال الليث : الحاصل من كل شيء ما بقي وثبت وذهب سواه ، والتحصيل تمييز ما يحصل والاسم الحصيلة قال لبيد : وكل امرىء يوماً سيعلم سعيه ... إذا حصلت عند الإله الحصائل
وفي التفسير وجوه أحدها : معنى حصل جمع في الصحف ، أي أظهرت محصلاً مجموعاً وثانيها : أنه لا بد من التمييز بين الواجب ، والمندوب ، والمباح ، والمكروه ، والمحظور ، فإن لكل واحد ومنه قيل للمنخل : المحصل وثالثها : أن كثيراً ما يكون باطن الإنسان بخلاف ظاهره ، أما في يوم القيامة فإنه تتكشف الأسرار وتنتهك الأستار ، ويظهر ما في البواطن ، كما قال : { يَوْمٍ تبلى السرائر } [ الطارق : 9 ] . " اهـ
والذي أراه أن التحصيل هو الجمع والاستخراج والأخذ, وكما قلنا فإن هذا يكون في الدنيا , فما هو هذا الحدث الذي يكون في الدنيا ؟ إنه بداهة ساعة الموت , عندما تأتي الملائكة لتأخذ وتستخرج ما في الصدور وهو نفس الإنسان . أما على قولهم بأن هذا يكون في الآخرة فلا مناسبة فيه ولا تخريج منطقي لزعمهم ! إذ فالله تعالى ينبه الإنسان إلى ما يراه من هلاك أخيه الإنسان ومن موته أمامه وكيف أنه سيكون ويصير إلى ما صار إليه , فنفسه ستؤخذ وتجمع وهو سيصير إلى التراب ويبعثر , ثم يعرف الله تعالى الإنسان بإحاطته به في جميع أحواله وخاصة في هذا اليوم العسير فيقول " إن ربهم بهم يومئذ لخبير " ونجد أن عود الضمير هنا إلى الجمع ! مع أنه كان من المفترض أن يقال – كما يظن بعض الحمقى – " إن ربه به يومئذ لخبير " بل ومن الأولى أيضا ألا يكون هناك " يومئذ " لأن الله عالم بالناس وخبير بهم في كل وقت وحين ؟
إن الله تعالى يعرض للإنسان صورة من يموت ويصير إلى التراب وكما وضحنا فإن هذا العرض لشيء يكون في الدنيا يراه الإنسان على غيره , وهذا الغير بداهة و كما جاء في الآيات جمع وغائب فالناس كثيرة في القبور وهم الذين يموتون ويراهم الإنسان حين ذلك أما عند الموت فلا يرى الإنسان نفسه وإنما يراه غيره ! لذلك يقول الله تعالى للإنسان :
لا تحسبن أن حياتك في هذه الدنيا أو حياتهم هي الحياة الوحيدة , وأنهم بموتهم قد انتهى الخير والشر بالنسبة لهم ! بل هناك حياة بعد الموت , وأنت وغيرك عند موتكم وعند كونكم في قبوركم فإني خبير بكم محيط بكم مطلع عليكم !
لذلك فإنه من المنطقي جدا أن يستعمل الله تعالى ضمير الجمع وضمير الغائب من أجل توصيل هذه الصورة للإنسان !
ونحن نرى أن القول بأن آخر هذه السورة هو ساعة الموت في الدنيا هو المناسب لبداية السورة التالية حيث أنها تبدأ بالقارعة وهي أول يوم القيامة , فهنا تنتهي السورة بالموت وتبدأ التالية بالقرع الذي يوقظ الموتى !
فانظر أخي في الله إلى هذا المنظور الذي قدمناه لك وبين ما يقوله المفسرون , ونقدم لك ملخصا موجزا لمعاني السورة مجمعة حتى ترى المعاني البليغة لهذه السورة العظيمة :
حتى لا يطال عليك الموضوع في الصلاة فهذا منظور مختصر وتستطيع ان تخشع فيه في صلاتك
المنظور العام للسورة :
يقسم الله تعالى بالسحب الثقال المتحركة حركة سريعة الحاملة للمطر والتي تتجمع فتبرق عن طريق احتكاكها ببعضها ( وبداهة هناك مع البرق رعد ومطر فما من برق بدونهما ) وهذه السحب تأتي الناس مغيرة صبحا مضيئة ! فتثير ذرات المطر فيسقط بين خلق الله ويتجمع فينتفعون به ! يقسم الله تعالى بكل هذا على أن الإنسان كافر بنعم ربه غير شاكر لها على الرغم من أنه شاهد عليها يراها وينتفع بها ثم هو محب للخير حبا شديدا وعلى الرغم من ذلك فتصرفاته مناقضة له ( فلا يشكر نعم الله ) ثم ينبهه الله تعالى إلى أن مآل كل إنسان هو إلى القبر ويصير عظاما نخرة تبعثر ولكن قبل ذلك ستحصل نفسه التي في صدره وتعود إلى الله تعالى , ( حتى تعود إليه بعد ذلك في يوم البعث فتزوج به ) والله تعالى خبير بالإنسان في حال موته وبعد موته فلا يغفل عنه ولا يتركه فليست هذه هي الحياة الوحيدة التي سيحياها الإنسان وإنما هناك يوم آخر سيصحو له الإنسان يبدأ بالقرع !
وقارن بين هذا التصور الإجمالي الذي نقول به وبين ما يقول به المفسرون واحكم بنفسك أيهما أكثر إحكاما وأيهما يعطي وحدة موضوعية للسورة من أولها إلى آخرها .
الوحدة الموضوعية للسورة :
كما رأينا من خلال هذا التصور الشامل فإن الوحدة الموضوعية بينة أيما بيان فالسورة تدور في دائرة كفر الإنسان لنعم الله الكثيرة عليه على الرغم من حبه واستكثاره لها ومشاهدته إياها وعلى الرغم من أنه هو نفسه سيموت ويفنى ولكن لن ينتهي الخير أو الشر بذلك بل هناك إله خبير بالإنسان سيجازيه خير الجزاء على فعله !
هدانا الله وعصمنا من الزلل وجعلنا شوكة في حلوق الملاحدة والمشككين