مرافقة الأبرار
أهميّة الصحبة وآثارها
إنّ الإنسان بطبعه كائنٌ اجتماعيٌّ. وصلته بسائر أعضاء المجتمع لا تنقطع طوال حياته. وبالتأكيد فهو يتأثّر بالآخرين ويؤثّر فيهم. فهو في مختلف مراحل حياته، منذ نعومة أظافره حتّى شيخوخته، بحاجةٍ إلى رفيقٍ يُصاحبه ويؤنسه, ولا ريب في أنّ شخصيته تنصقل طبقاً لمن يعاشر، حيث قال الإمام عليّ عليه السلام في هذا الصدد: "الْمَرءُ علَى دينِ خَليلِهِ، فَلْينظُرْ أحدُكُمْ مَن يُخالِلُ"1.
إنّ فقدان الرفيق الصّالح يُعدّ نقصاً، والذي لا يُرافق الأبرار والصُّلحاء يُحرم من نعمةٍ عظيمةٍ. لذلك فإنّ الإنسان لا يحتاج إلى ما يُحفّزه على كسب الأصدقاء، بل هو بحاجةٍ إلى مَن يُرشده لمعرفة المعايير الصحيحة التي تُعينه على اختيار الرفيق البارّ. وبالطبع فإنّ تعاليم ديننا ومعارفه تحفل بهذه الوصايا والإرشادات. فمِن نِعم الله تعالى على الإنسان
101
أنّه أكرمه بالتوفيق لمرافقة الأخيار العقلاء والمؤمنين، وجعل مجالستهم بوّابةً لتهذيب نفسه وتزكيتها، لأنّ الركن الأساسيّ في هذه المجالسة هو الذّكر وفعل الخير واجتناب الرّذائل، وبالتالي فهي رفقةٌ تشذّب شخصيّته وتُصلح باطنه وتبدو آثارها في سلوكه وعباداته. وقد أكّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الحقيقة بقوله: "أسعدُ النّاسِ مَن خالطَ كِرامَ النّاسِ"2.
وكذلك فإنّ مرافقة أصحاب السوء لا يتمخّض عنها سوى الابتلاء بالرّذائل والانحراف عن سبيل الرشاد. وكما لا يخفى على أحدٍ فإنّ أهمّ سببٍ في ضلال الناس وانحرافهم، ولا سيّما الشباب واليافعين، هو مصاحبة رفيق السوء الذي لا يفقه من الحياة إلا الشهوات والملذّات الزائلة. وكما ذكرنا آنفاً فإنّ الإنسان يتأثّر بما حوله ويكتسب طباع مَن يُخالط، فيصبح سلوكه مرآةً لسلوك أصحابه. وقد أشار تعالى في كتابه المجيد إلى هذا الأمر حينما صوّر لنا حال أهل الضلال يوم الحساب وهم يعتصرون ألماً لأنّهم رافقوا الفسقة وأعرضوا عن الصالحين، فقال: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا﴾3. كما أكّد عزّ شأنه على أهميّة اتّخاذِ رفيقٍ
102
صالحٍ واجتناب رفيق السوء، حيث أوصى نبيّه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بالإعراض عن مرافقة الغافلين الذين لا هدف لهم سوى الحياة الماديّة ومتاعها الزائل، وبالطبع فإنّ هذا الخطاب يشمل جميع المسلمين، فقال: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾4. وفي آيةٍ أُخرى أوصاه بمرافقة الأبرار الذين يزهدون في الدّنيا ولا يغفلون عن ذكره، حين قال: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾5.
معايير انتخاب الأصحاب
وأولياء الله الصالحون على مرّ العصور بدورهم قد أكّدوا على ضرورة مراعاة أهمّ الأُسس في اختيار الجلساء والأصحاب في أحاديث كثيرةٍ، ووضعوا لنا أفضل السُّبل لذلك، ووضّحوا لنا هذه السُّبل في وصاياهم وإرشاداتهم الأخلاقيّة القيّمة، وفي نفس الوقت نبّهونا من مغبّة السقوط في مسالك الانحراف المتجسّدة بمرافقة أصحاب السوء، حيث نستلهم من أحاديثهم ووصاياهم المعايير الصحيحة التي تُعيننا على تمييز الغثّ من السمين. فالمعيار في اختيار الجليس الصالح لا بدّ وأن يكون حسب مبادئ الإيمان والضمير الحيّ والعلم والبصيرة والإخلاص والعمل
103
للآخرة والمحبّة الصادقة والصراحة، وما إلى ذلك من أُصولٍ لا شائبة فيها. أمّا المعيار في تشخيص جليس السوء الذي يُعدّ وازعاً لاجتناب مصاحبته، فهو نفاقه وفسقه وانحرافه وحماقته ومخالفته للعقل وبخله وحسده وتملّقه، وما شابه ذلك من خصالٍ رذيلةٍ.
ونذكر فيما يلي بعض الأحاديث والأخبار بهذا الصدد:
أوّلاً: الأحاديث التي نستلهم منها المعايير الأساسيّة لمعرفة الرفيق الصالح:
روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "خَيرُ مَن صحِبتَ مَن وَلَّهَكَ بالأُخرَى وزَهَّدَكَ فِي الدُّنيا وأعانَكَ علَى طاعَةِ الْمَولَى"6.
قال الحواريون لعيسى عليه السلام: مَن نجالس؟ فقال عليه السلام: "مَن يُذكِّرُكُمْ اللهَ رُؤيَتُهُ ويُرَغِّبُكُمْ فِي الآخِرةِ عمَلُهُ ويَزيدُ فِي مَنطِقِكُمْ عِلمُهُ"، وقال لهم: "تَقرَّبُوا إلَى اللهِ بالبُعدِ مِن أهلِ المعاصِي، وتَحبَّبُوا إلَيه بِبُغضِهِمْ، والتَمِسُوا رِضاهُ بسخَطِهِمْ"7.
روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "صَديقُكَ مَن نهاكَ، وعَدوُّكَ مَن أغراكَ"8.
روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "أحَبُّ إخوانِي إِلَيَّ مَن أهدَى إِلَيَّ عُيوبِي"9.
روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "الصَّديقُ مَن كانَ ناهيَاً عَن الظُّلمِ والعُدوانِ مُعينَاً علَى البِرِّ والإحسانِ"10.
104
ثانياً: الأحاديث التي نستلهم منها المعايير الأساسيّة لمعرفة رفيق السوء:
روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "فَسادُ الأخلاقِ بمُعاشَرةِ السُّفَهاءِ، وصَلاحُ الأخلاقِ بمُنافَسةِ العُقَلاءِ"11.
وروي عنه كذلك: "مُجالَسةُ أبناءِ الدُّنيا مَنساةٌ للإيمانِ قائدةٌ إلَى طاعَةِ الشَّيطانِ"12.
وروي عنه أيضاً: "إيّاكَ ومُصاحَبةَ الفُسّاقِ، فإنَّ الشَّرَّ بالشَّرِ مُلحقٌ"13.
روى أبو عبد الله الصادق عليه السلام عن أبيه الباقر عليه السلام أنّه قال: "قالَ لي عليُّ بنُ الحسينِ عليهما السّلام: يا بُنَيَّ، انظُرْ خمسةً فلا تُصاحِبهُمْ ولا تُحادِثهُمْ ولا تُرافِقهُمْ في طريقٍ.
فقلتُ: يا أبَه، مَن هُم؟
قال: إيّاكَ ومُصاحبةَ الكذّابِ، فإنَّهُ بِمنـزِلَةِ السَّرابِ، يُقَرِّبُ لكَ البعيدَ ويُباعِدُ لكَ القَريبَ.
وإيّاكَ ومُصاحبةَ الفاسِقِ، فإنَّهُ بائعُكَ بأكلةٍ أو أقلّ مِن ذلكَ.
وإيّاكَ ومُصاحبةَ البَخيلِ، فإنَّهُ يَخذِلُكَ في مالهِ أحوجُ ما تكونُ إليهِ.
وإيّاكَ ومُصاحبةَ الأحمَقِ، فإنَّهُ يريدُ أنْ يَنفعَكَ فيضُرُّكَ.
105
وإيّاكَ ومُصاحبةَ القاطِعِ لرَحِمِهِ، فإنِّي وجدتُهُ مَلعونَاً في كِتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ فِي ثلاثة مواضع"14.
كما روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "إيّاكَ ومعاشرةَ الأشرارِ، فإنَّهُم كالنّارِ مُباشَرَتُها تُحرِقُ"15.
وفي موضعٍ آخر قال عليه السلام: "مُجالسَةُ أهلِ الهوَى مَنساةٌ للإيمانِ ومَحضَرةٌ للشَّيطانِ"16.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "احذَرْ مِن النّاسِ ثلاثةً، الخائنَ والظَّلومَ والنَّمامَ، لأنَّ مَن خانَ لَكَ خانَكَ، ومَن ظَلَمَ لَكَ سيَظلِمُكَ، ومَن نَمَّ إلَيكَ سيَنُمُّ عَليكَ"17.
روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "الصَّديقُ الصَّدوقُ مَن نصَحَكَ فِي عَيْبِكَ وحَفَظَكَ فِي غَيْبِكَ وآثَرَكَ علَى نَفْسِهِ"18.
وقال عليه السلام في مناسبةٍ أُخرى: "أكثرُ الصَّوابِ والصَّلاحِ فِي صُحبَةِ أُولِي النُّهَى والألبابِ"19.
وقال عليه السلام أيضاً: "قارِنْ أهلَ الخيرِ تَكُنْ مِنهُمْ، وباينْ أهلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنهُمْ"20.