ساد الصمت الغرفة ، بعد أن نجحت أمي في تهدئة أخي الرضيع .. فصفا لي الجو للنوم .. ولكني حينها لم يهدأ لي بال ولم يغمض لي جفن .. فها هو الليل يلم أطرافه للرحيل ووالدي لم يعد بعد … لعن الله الفقر .. ، لو لم نكن فقراء معدمين لما كنا على هذا الحال .. ، لا لا لا إنه امتحان من رب العالمين..
لكن الأفكار تحيط بي .. لما نحن بالذات مِن بين مَن في العالم أجمع نبتلي بهذا الامتحان .. لماذا؟ .. ويعلو نداء النفس الداخلي .. استغفرالله .. إنه الشيطان يحاصرني ولا يدع لي شاردة ولا واردة إلا وأودع فيها وساوسه … ، ورغم صفاء نفسي حينها إلا أني ظللت ساهماً شارداً حتى عاد أبي .. ، ولم يكن بعودته مبعداً لقلقي .. لأني قرأت من وجهه حزنا … كات تعباً جداً .. رجلاه بالكاد تتحملان ثقل جسمه وصوته خرج ضعيفاً واهناً وهو يردد .. القارب .. القارب ..
حينما وصل لمسمعي ما ردد اسودت الدنيا بوجهي ..، فوالدي صياد ، والقارب هو مصدر رزقنا الوحيد .. . قمت من فوري استفسره عن ما حل به .. وبصعوبة استطاع أن يلم شتات فكره ليقول بحزن خانق .. القارب تحطم .. ، تنهد ثم استطرد .. خرجت للصيد كعادتي ، ولما اقتربت من البحر لم أجد القارب .. فبحثت عنه هنا وهناك .. ولكني وجدته حطاما .. ، لم أصدق عيني واستنكرت كونه قاربي ، ولكني عرفت أن بعض الصيادين الذين يحملون الحقد علينا مع سوء حالنا يريدون احتكار بيع السمك والتحكم بأسعاره فكان هذا السبيل لتحقيق أطماعهم وما باليد حيلة سوى قولي حسبي الله ونعم الوكيل .
لم يخفى عن بالي حينها ما فعله والدي مع هؤلاء الصيادين والمساعدات التي قدمها لهم والقروض التي أعطاهم ولم يردوها له يوم كانوا فقراء كحالنا .. ثم الجزاء الذي لقاه منهم بعد ذاك .. ، أحسست بألم يعصرني ولكن مشاعر التأثر بدت أكبر عندي حينها ..، فوالدي المسكين رغم شدة الألم والحزن الذي يعانيه من فعلتهم .. توجه للمسجد راجياً وداعياً المولى عزوجل أن يغفر لهم عملهم فلقد عظمت ذنوبهم فكيف سيلاقون الله وهم يحملون هذه الأثقال .
لم يكن حالنا يسمح بشراء قارب جديد .. ولكن أبي كان يوفر بعض النقود .. حتى استطاع أن يشتري بهم قارباً صغيراً وقديم .. ودعا الله التوفيق.