قال الغراب : كان لي جار من الصفاردة ( طائر جبان ، كنيته أبو مليح) ، في أصل شجرة قريبة من وكري ، و كان يكثر مواصلتي ، ثم فقدته ، فلم أعلم أين غاب ، و طالت غيبته عني ، فجاءت أرنب الى مكان الصفرد ، فسكنته ، فكرهت أن أخاصم الأرنب ، فلبثت فيه زمانا . ثم ان الصفرد عاد بعد زمان ، فأتى منزله ، فوجد فيه الأرنب . فقال لها : هذا المكان لي ، فانتقلي عنه ، قالت الأرنب : المسكن لي و تحت يدي ، و أنت مدع له ، فان كان لك حق فاستعد باثباته علي . قال الصفرد : القاضي منا قريب ، فهلمي بنا اليه . قالت الأرنب : و من القاضي ؟ قال الصفرد : ان بساحل البحر سنورا متعبدا يصوم النهار ، و يقوم الليل كله ، ولا يؤذي دابة ، ولا يريق دما ، عيشه من الحشيش و مما يقذفه اليه البحر ، فان أحببت تحاكمنا اليه ، و رضينا به . قالت الأرنب : ما أرضاني به اذا كان كما وصفت ! فانطلقا اليه فتبعتهما لأنظر الى حكومة صوام القوام ، ثم انهما ذهبا اليه فلما بصر السنور بالأرنب و الصفرد مقبلين نحوه انتصب قائما يصلي ، و أظهر الخشوع و التنسك . فعجبا لما رأيا من حاله ، و دنوا منه هائبين له ، و سلما عليه ، و سالاه أن يقضي بينهما ، فأمرهما أن يقصا عليه القصة ، ففعلا . فقال لهما : قد بلغني الكبر ، و ثقلت أذناي ، فأدنوا مني ، فأسمعاني ما تقالان . فدنوا منه ، و أعاد عليه القصة ، و سألاه الحكم ، فقال : قد فهمت ما قلتما ، و أنا مبتدئكما بالنصيحة قبل الحكومة بينكما ، فأنا آمركما بتقوى الله ، و أن لا تطلبا الا الحق ، فان طالبه هو الذي يفلح ، و ان قضي عليه ، و طالب الباطل مخصوم وان قضي له ، و ليس لصاحب الدنيا من دنياه شيئ ن ولا مال و لا صديق سوى العمل الصالح يقدمه ، فذو العقل حقيق أن يكون سعيه في طلب ما يبقى و يعود نفعه عليه غدا ، و أن يمقت بسعيه فيما سوى ذلك من أمور الدنيا ، فان منزلة المال عند العاقل بمنزلة المدر ( قطع الطين اليابس و الحجارة ) ، و منزلة الناس عنده فيما يحب لهم من خير و يكره من الشر بمنزلة نفسه .
ثم ان السنور لم يزل يقص عليهما من جنس هذا و أشباهه ، حتى أنسا اليه ، و أقبلا عليه ، و دنو منه ، ثم وثب عليهما فقتلهما.
................................ :
كليلة و دمنة