"ماذا تفعلُ الناس إذا قاست أسوأ الأحوال وأفظعها؟" "ماذا ستفعل إن أعطيت لك سلطة عظيمة على حساب أشخاص آخرين؟"
عندما يتم صياغة سيناريو لقصة درامية تعالج العدالة والمبادئ الإنسانية والجريمة والضغوطات البشرية التي تواجه الناس الخيرين مقابل عبثية بعض المجرمين، ويتم تقديم هذا السيناريو في صالح فيلم درامي معتدل الصنع، أول ماسنتجه إليه هو نوعية هذه القصة والسيناريو وهل ستتواصل معنا كمشاهدين، لأننا نبذل مجهوداً ونقدم معروفاً لكل من صنع هذا الفيلم وإعطائنا لساعتين من الزمن نحاول فيها إستخلاص شيئ مما تمت معالجته وتسليط الضوء عليه. على خلاف إن إتجه كريستوفر نولان ليصيغ سيناريو مشابه ويضيف عليه عنصراً آخراً أساسيا مبني على تقاليد الكوميك الشهير باتمان، ويتم تنفيذ فكرة الفيلم عبر فيلم إثارة وجريمة مصنوع بشكل خالص ومثالي، فهل سنقيمه على حساب ماقدمه من أفكار درامية أم وزنه كفيلم أكشن وجريمة؟ لا هذا ولاذاك، وهنا تكمن روعة وأسطورية فيلم فارس الظلام بأجزاءه الثلاثة، والروعة الأخرى هي إكتشافك للتحدي الذي فرضه نولان على نفسه قبل عقد عندما جعل من الكوميك الشهير باتمان مرتعاً للإبداع السيناريوهاتي والقصص والأسلوب السينمائي الفردي رفقة صديقه دايفيد غوير وأخيه جوناثان نولان، ورفع بقدرته الإخراجية والإنتاجية لصنع فيلم حاسم جداً ومغير للعبة، فيلم يعد الأفضل في صنفه ويجمع بين مقومات القصة الأخاذة درامياً، فارس الظلام عالج كثير الأبعاد، أكثر مما تصوره النقاد الكلاسيكيين المتعلقين بالأفلام الدرامية التي يزول تأثيرها لساعتين وأكثر مما تصوره المشاهدون المحبون لأفلام البلوكباستر السريعة النفاذ، فكر جيداً معي إن كان سيناريو نولان بتلك السذاجة ليجعل باتمان ونزاعه ضد الجوكر نزاعاً عادياً ستزول معالمه عند مشاهدتك لفيلم آخر تتخلله نفس المعالم، فكر معي كم الإسقاطات الواقعية التي مثلها بكل شخصية من عبثية ودكتاتورية وببساطة شر ونفاق متمثلان في شخصية الجوكر التي تم إحتراف تمثيلها من الراحل هيث ليجر بإتقان وإبداع، وضرورة تقديم القليل الجيد من التصرفات الخيرة الجيدة بحق الناس، وتطبيق بعض من مفهوم العدالة، هذا ما أسست عليه شخصية باتمان، ولو لاحظتم معي مزيجاً من الإثنين هي أساس الحرف الآخر هارفي دنت الذي يحاول على الأقل أن يتصف ويتسم بالنزاهة والعدالة في عالم غير عادل البتة... ليكون تحوله البشع فيزيائياً مرحلة فاصلة في شخصه ويتخذ من القطعة النقدية وسيلة لتحقيق مفهوم العدالة برؤيته الخاصة بعد عدم رضاه لما آلت إليه المصائر خصوصاً بالنسبة له، المحامي العام للمدينة يوماً، وقد قدم الكثير.. وهاهو يجازى بتغيير بشع على مستوى شاكلته.
"لايستطيع البشُر التعامل مع القوة بمسؤولية".. (شيئ سبايدرمان سيقول أنه في الإستطاعة)
(أعرفُ أن الأمر يستعصي النقاشَ ولكن الفيلم يعالج ضرباً من "الخلاص" يقبع تحت كل الأبعاد والإسقاطات الأخرى، فبحلول نهاية الفيلم باتمان يصبح مكروهاً من لدن الجميع، ويُعتبر قاتلاً رسمياً ومجرماً بحق المدينة، أوليس هذا ماحل مع عديد الأشخاص الذين غيروا التاريخ أنبياءٌ كانوا مثل سيدنا عيسى أو الشخصيات التاريخية المُلهمة التي رفضها المُجتمع رغم أنها حققت له الكثير وحققت مايسمى بالخلاص؟...)
وبالطبع الحديث سيطول لو ذكرنا باين، الرجل الذي يتخذ من قوته العضلاتية وتفكيره العبثي الإرهابي شيئاً مضخوماً فيه ووسيلة ناجحة فعلياً للسيطرة التامة على غوثام قلباً وقالباً، هو الشخصية التي صاغها دايفيد غوير والنولانز بطريقة صعبة بالنسبة لأي سيناريست، فبعد أن كان الجوكر شريراً يعتمد على مكره وذكاءه والأهم من ذلك مبادءه الغريبة، يأتي باين واثق الخطى قوي الشخصية، فهو عدو صعب النزال فيزيائياً، وصعب التحدي نفسانياً، هو العدو الذي يقف في طريق باتمان ليس فقط لتضعيفه وجعله أصغر مماهو عليه بل لجعله مثالاً لمن يحاول أن يتحدى ولو القليل من شخصية باين..
هذا دون الإشادة بالجانب التصاعدي الفلسفي الممتع والشهير للسلسلة، فالأول هو تسليط لمفهوم الخوف الذي طال بروس باين، والثاني حول الفوضى والعبثية التي طالت شخصاً قليلاً مايعرفه على الرحمة والشفقة، وثالثاً الصعود والنهوض في قالب ملحمي حربي صعب على المُخرج إرباطه بما عولج في سالف الأجزاء، تخرج منتشياً بهذه الأفكار التي تطالك وتلك المساحة التي تتسع فجأة وتنغلق بتغير الأحداث ودراميتها، بصرف النظر عن الصناعة البصرية والمؤثراتية للفيلم التي صنعت في قالب سوداوي مذهل ومتفنن فيه. سلسلة فارس الظلام في نهاية المطاف هي سلسلة يشيب لروعتها الولدان، وكل مشاهد يواجه صعوبة في إحصاد كم المشاعر التي تطاله أثناء مشاهدة كل ربع ساعة من كل جزء، خوف أم هلع من مصير البطل، أم تفنن من العالم السوداوي المصاغ بإبهار وإتقان، أو رؤية درامية كئيبة لما آلت إليه الأحداث، أو تشويق وحب أو سخرية وإستمتاع بحوارات الجوكر. على الأقل في نظري الخاص هذا مايجعل فيلم فارس الظلام قيمته كجزء منفصل أو سلسلة تامة من أعظم الأفلام، وفيلماً مغيراً للعبة.
ولا أريد أخذ وقت في ذكر عديد المميزات الفنية كالموسيقى التصاعدية الرائعة من هانز زيمر، التي تبعث على التوتر والعصبية في جو جريمي قوي جداً، وأحداث تشويقية غير متوقعة، وكذلك الأداءات التمثيلية العالية الطراز من كريستيان بيل كفارس الظلام، ومايكل كاين كألفرد وآرون إشكهارت كهارفي دنت، طبعاً الثناء الأعظم يناله الراحل هيث ليدجر لمنهجيته وخلقه ورؤيته الخاصة لشخصية الجوكر، حيث أتذكر أنه في مقابلة قبل وفاته تحدث فيها عن مشروع فارس الظلام وذكر أنه لايريد بل لايفكر حتى في ملامسة ولو القليل مما أبدع فيه الأسطورة جاك نيكلسون في جوكر تيم برتن، ولا أعلم إن كانت هذه من ثمار التواضع لكن تمثيل وقوة هيث ليجر على الشاشة عندما يبرز في كل مشهد بضحكاته وقهقاته ثم يقلبها بوجه درامي حزين وحوار جذاب قاتم وكاريزماتي، أحس كأنه علي أن أصفق للممثل الذي قدم وأعطى الحق الكامل للشخصية وتفوق على رؤية جاك نيكلسون في نظري الخاص وربما السبب عائد لتفوق سيناريو فارس الظلام على ذلك الفيلم.
(وضعت الموضوع على شكل فقرات بسيطة ربما وليدة عشق وحب لهذا الفيلم المُبهر من جميع الجوانب ولكن طرح لبعض الإسقاطات التي عالجها المخرج كريستوفر نولان بثلاثيته، وأختتم الحديث بأننا في زمن تصدر فيه أفلام البلوكباستر على السريع ويشاهدها الكل في السينما ثم يعود لمنزله وينسى ماحدث، كما يحدث في الأفلام في تلك المشاهد الرومنسيّة "We go to the movies!"، لا أقول أن فارس الظلام من تلك الأفلام التي تغيرك لتلك الدرجة.. لكنه فيلم مقبول لأي كيان يحب مشاهدة الأفلام، والبعض للأسف من تفاهة ونذالة أفلام الأكشن ذات الأفكار المكررة والعديمة الإبتكار يظنون أن أي فيلم يُصنع في تلك الفئة سيئ فنياً، أو ربما الكوميك وتقاليده من بزة وبذلة طيران ومايك آب وصوت غريب ومجرمين أكثر غرابة... شيئ تافه ليُوضع ويُنسج كموضوع أساسي لفيلم دراما وجريمة والعكس أنه تحدّ صعب لأي مخرج، والبعض - الله غالب - متيمون بصنف الدراما حتى النخاع ولايقلبون صنفاً غيره وأحترم آرائهم رغم ذلك...)
ANGEL GIRL عضو مميز
عدد المساهمات : 796 تاريخ التسجيل : 23/04/2013 العمر : 24 الموقع : Google
موضوع: رد: ثلاثية فارس الظلام وتحليل لبعض الأبعاد والإسقاطات... السبت 11 مايو 2013 - 14:19
شكرا على الموضوع
واصلي على هذا المنوال
ثلاثية فارس الظلام وتحليل لبعض الأبعاد والإسقاطات...