شبابنا.. إلى أين؟!
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، أما بعد..
شبابنا إلى أين؟..
شباب كانوا أملاً، وثروة لهذه الأمة، ومستقبلاً مشرقاً، وربيعاً زاهراً، وقلباً نابضاً، وسياجاً واقياً لأمتهم من الرياح العاتية والسيول الجارفة، فانحرفوا عن الجادة فسقطوا في أوحال المخدرات، فأهدرت تلك الثروة الثمينة، وأصبح ذلك المستقبل حاضراً بئيساً، وذبلت تلك الأزهار المتفتحة، وتساقطت وتوقف القلب عن الخفقان، وانهار السياج فاندفعت الرياح والسيول وجرفت معها الأفكار الهدامة التي أودت بهم إلى الهاوية.
قال أحدهم:
".. سقطت في هوة المخدرات منذ أعوام أنا ورفاق لي بحجة التسلية وهرباً من الواقع الذي نعيشه، قتلت فينا المخدرات كل شيء.. الدين.. الحياء.. الطموح.. وأصبحنا على هامش الحياة بعد أن كانت تعقد علينا الآمال وكان يتوقع أن يكون لنا مستقبل مشرق.. فأصبحنا بعد ذلك في قمة الضياع، فمنّا من فقد وظيفته، ومنا من ترك دراسته بل ووصل الحال في بعضنا أنه كان يتسوّل من أجل أن يشتري تلك المخدرات..".
فكم من الشباب وقع في شرب المسكرات حتى صارت بالنسبة له روحاً لا تفارق جسده فخسر بعد وقوعه فيها كل شيء.. الرجولة.. الحمية.. والسّمت الحسن، وخسر مكانته بين الناس وأصبح قلبه أسود مرباداً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، حتى صار في أثناء شربه لذلك المسكر لا يفرّق بين أمه وأخته وبغيّ من البغاي... وهكذا لعبت بهم المخدرات حتى وصلوا إلى تلك النتيجة المحزنة فكم خسرت الأمة بخسارة هؤلاء الشباب...
شاب سافر إلى بلاد الفجور وعاشر البغايا والمومسات وعاد إلى موطنه حاملا معه الفيروس الخبيث ـ الإيدز ـ ثم عاشر زوجته العفيفة فانتقلت إليها العدوى وأصيبت بذلك الداء الخطير وبقيت تنتظر ساعة الرحيل بسبب ذنب لم ترتكبه وبسبب فساد ذلك الزوج الذي زهد في الحلال وراح يبحث عن الشهوة المحرمة.
وشباب عادوا إلى الله بعد أن سئموا من حياة الملل والنكد والشقاء وبعد أن خاضوا بحور المعاصي فنظروا في أنفسهم فوجدوا أن تلك الشهوة ولّت وبقيت عاقبتها السيئة رفيقاً لهم في سفرهم الطويل فما زادتهم إلا هماً وشقاءً وقد كانوا يأملون أن هذه المعصية ستحقق لهم السعادة فما زادتهم إلا بعداً عن الله فوقفوا مع أنفسهم وقفة صدق وقرّروا الخلاص من الحياة البئيسة التي لم يجنوا منها إلا الشقاء الدائم والعناء المستمر فأقبلوا على ربهم منيبين إليه مقرّين بذنوبهم يستغفرون الله على كل لحظة قضوها في البعد عنه، وعلى كل لحظة فارقوا فيها هذه الحياة الطيبة ولم يذوقوا فيها لذة العبادة والإنابة إليه سبحانه، فتراهم يطيلون السجود، ألسنتهم ذاكرة وأعينهم دامعة وقلوبهم خاشعة تفيض محبة ورقة وتزداد شوقاً إلى لقاء الله.
وتراهم يسارعون في الخيرات ويتحرّون الأعمال الصالحة التي تقربهم من ربهم الرحيم الذي طالما أبعدتهم المعاصي عن الطريق الذي يوصل إلى رضوانه.
وشباب تاهوا في دوامة الحياة تراهم حيارى يريدون أن يتخلصوا من الكآبة التي أحاطت بهم ويسلكوا طريق السعادة، ولكن كبلتهم الذنوب والخطايا وأصبحت الشهوات عائقاً في طريقهم عن الوصول إلى الهداية، فتراهم يقدّمون رجلاً ويؤخرون أخرى وكلما ساروا قليلاً رجعوا إلى الوراء.
يملأ حياتهم الأرق والهم والمخاوف وتتعالى في نفوسهم صرخات الألم من الواقع الذي يعيشون فيه ويتحرك في قلوبهم داعي الخير إلى الحياة السعيدة والمستقبل المنير، ولكنهم ضلوا الطريق وعاشوا صراعاً مريراً مع أنفسهم فكيف الخلاص من ذلك الواقع المظلم الذي ملأ قلوبهم ألماً وحسرات؟ وكيف النجاة من تلك الحياة المريرة وأين الطريق الموصل إلى الهداية؟!!
شبابنا هم الأمل المشرق..
عندما تجلس مع بعض الشباب وتبحر في أعماقهم تجد فيهم من الخير والصفات الطيبة ما يجعلك تتحسّر وتشعر بالحرقة على وجودهم في مكان لا يليق بهم..
فكثير من الشباب رغم غوصه في بحور المعصية إلا أنه يتحرك في قلبه الخوف من الله والندم والإحساس بالذنب الذي ارتكبه، وبعضهم عندما تتحدث معه تجد قلبه يمتلئ بالحميّة لهذا الدين ولا يرضى أن يتعدى أحد على حدود الله أو يتعدى على دين الله العظيم الذي اختاره لعباده فتجده يبغض الذين يسخرون من دين الله ويشن عليهم الحملات المضادة بكل ما أوتي من قوة.
وبعضهم قد امتلأ قلبه محبةً وإجلالاً لله فهو يحب ربه وخالقه الذي أنعم عليه بنعم لا تعد ولا تحصى وكان أرحم به من أمه التي ولدته، ويحب نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة ويحب صحابته الأطهار الأبرار وما إن تذكّره بسيرتهم حتى ترى دمعة قد انحدرت من عينيه، ويدعو الله أن يجمعه بهم في الجنة والنعيم والمقيم، وشباب تجدهم يتمتعون بأعظم صفات الرجولة، من النخوة، والغيرة على المحارم، والكرم، والشجاعة، وهؤلاء إن اهتدوا فسيكونون من أفضل الناس، كما قال صلى الله عليه وسلم: "فعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"[1]، فهؤلاء الشباب الطيبون الذين يحملون هذه الصفات الطيبة وغيرها الكثير لا يستغرب منهم القرب من الطاعة لأنهم أصلاً أبناء هذه الأمة وهم أحفاد الصحابة وسلف هذه الأمة الصالح وكثير منهم يريد الهداية ولكنه متذبذب يعرف أن هذا هو الطريق ولو سألته لماذا لا تلتزم يا فلان؟ لقال:
والله إني لأتمنى الهداية ... ولكن ...؟!!" ولكن ماذا ...؟!! ...
أُخيّ.. إذا كنت قد سئمت من حياة البؤس والشقاء وأردت أن تودع تلك الحياة البئيسة وتقبل على الله فهذا هو السبيل.
إن السبيل الذي يوصلك إلى ما تطمح إليه من النجاة مما أنت فيه والإقبال على حياة السعادة هو باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه...
... ولا تحسب أن قوله تعالى: {إنِّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وإنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}، مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط... بل في دورهم الثلاثة هم كذلك ـ أعني دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار ـ فهؤلاء في نعيم وهؤلاء في جحيم وهل النعيم إلا نعيم القلب وهل العذاب إلا عذاب القلب؟ وأي عذاب أشد من الخوف والهم والحزن وضيق الصدر وإعراضه عن الله والدار الآخرة وتعلقه بغير الله وانقطاعه عن الله بكل واد منه شعبة وكل من تعلق به وأحبه من دون الله يسومه سوء العذاب.
فكل من أحب شيء غير الله عذب به ثلاث مرات في هذه الدار، فهو يعذب به قبل حصوله حتى يحصل، فإذا حصل عذب به حال حصوله بالخوف من سلبه وفواته والتنغيص والتنكيد عليه وأنواع من العذاب في هذه المعارضات، فإذا سلبه اشتد عليه عذابه فهذه ثلاثة أنواع من العذاب في هذه الدار.
وأما في البرزخ ـ القبر ـ فعذاب يقارنه ألم الفراق الذي لا يرجو عوده وألم فوات ما فاته من النعيم العظيم باشتغاله بضده، وألم الحجاب عن الله وألم الحسرة التي تقطع الأكباد فالهمّ والغم والحسرة والحزن تعمل في نفوسهم نظير ما يعمل الهوام والديدان بأبدانهم بل عملها في النفوس دائم مستمر حتى يردها الله إلى أجسادها فحينئذ ينتقل العذاب إلى نوع هو أدهى وأمرّ، فأين هذا من نعيم من يرقص قلبه طرباً وفرحاً وأنساً بربه واشتياقا إليه وارتياحاً بحبه وطمأنينة بذكره، حتى يقول بعضهم حال نزعه: واطرباه.
ويقول الآخر: إن كان أهل الجنة في مثل هذه الحال إنهم لفي عيش طيب.
ويقول الآخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا لذيذ العيش فيها، وما ذاقوا أطيب ما فيها.
ويقول الآخر: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
ويقول الآخر: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة[2].
تذكر الرحيل..
أخي... تذكر تلك اللحظة الحاسمة التي لا مفر منها، تذكر الرحلة الأخيرة عن هذه الدنيا والإقبال على الآخرة... تذكر (الموت) وسكراته ونزعه وانظر في نفسك ماذا أعددت لذلك الموقف الرهيب؟
هل تذكرت حالك إذا يبس لسانك وتوقف قلبك وارتخت يداك وشخصت عيناك وبلغت الروح الحلقوم:
{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاقُ} هل أخذت معك من الزاد ما يكفي؟ هل تذكرت ظلمة القبر وضمّته؟ هل تذكرت حالك عندما يهال عليك التراب وتبقى وحيداً في ذلك القبر الموحش...
في ظلمة القبر لا أم هناك ولا أبٌ شفيق ولا أخ يؤانسني
هل قدمت بين يديك ما يكون سبباً في نجاتك من عذاب الله..
" ... مرّ عليّ رضي الله عنه بالمقبرة مع أصحاب له فقال: "السلام عليكم أهل الديار الموحشة والمحال المقترة أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع وإنا بكم عما قليل لاحقون، يا أهل القبور: أما الأزواج فقد نكحت، وأما الديار فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟ مالي أراكم لا تجيبون؟!
ثم التفت إلى أصحابه وقال: أما إنهم لو تكلموا لقالوا: وجدنا أن خير الزاد التقوى".
وتذكر ذلك اليوم الرهيب حين يبلغ الخوف بالعباد منتهاه، تذكر يوم القامة وما يصير الناس إليه من رحمة أو من عذاب وهم ما بين فرح مسرور وحزين مهموم، ذلك اليوم الذي حذر الله سبحانه عباده منه وخوفهم من هول مطلعه، حيث قال جل وعلا: {وَأَنذِرهُم يَومَ الآزِفَةِ إذِ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَالِمِينَ مِن حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ}..
قال أحد السلف تعليقاً على هذه الآية: ".. كيف يكون لظالم حميم أو شفيع والمطالب له رب العالمين؟ إنك والله لو رأيت الظالمين وأهل المعاصي يساقون في السلاسل والأنكال إلى الجحيم حفاة عراة مسودة وجوههم، مزرقّة عيونهم، ذائبة أجسادهم ينادون يا ويلنا يا ثبورنا ماذا نزل بنا؟ ماذا حل بنا أين يذهب بنا؟ ماذا يراد منا؟ والملائكة تسوقهم بمقامع النيران فمرّة يجرّون على وجوههم ويسحبون عليها منكبين، ومرة يقادون إليها مقرّنين من بين باكٍ دماً بعد انقطاع الدموع، ومن بين صارخٍ طائر القلب مبهوت، إنك والله لو رأيتهم على ذلك لرأيت منظراً لا يقوم له بصرك ولا يثبت له قلبك ولا تستقر لفظاعة هوله على قدمك ...".
وإذا الجنــين بأمه متعلق خـوف الحساب وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف لهـوله كيف المقيم على الذنوب دهور
وتذكر ذلك المفرق الصعب حين ينقسم الناس إلى فريقين، فريق في الجنة وفريق في السعير، فأين سيكون المصير إلى جنات الخلود التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؟
تلك الجنة التي تنسي أبأس أهل الدنيا ما مرّ عليه من البؤس والشقاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط"[3].
غمسة واحدة في الجنة جعلته يقسم بالله أنه لم يرَ بؤساً قط ولا شدة قط، وقد كان أبأس أهل الدنيا، فكيف بمن كانت الجنة له مقاماً؟.
وأعظم من ذلك أن يرى المؤمن وجه ربه الكريم الذي طالما خضعت له جوارحه ولهج لسانه بذكره وتحرك قلبه بمناجاته، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجّنا من النار، فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم"[4].
فهذه هي قمة السعادة وأعظم الجزاء وهذه هي الزيادة التي ذكرها ربنا جلّ وعلا في كتابه العزيز حيث قال: {لِّلِّذينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَزْهَقُ وُجُهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَةٌ أُولَئِكَ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ}.
أم سيكون المصير إلى نار جهنم التي وقودها الناس والحجارة، تلك النار التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: "ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءاً من حرّ جهنم" قالوا: والله إنها لكافيه يا رسول الله، قال: "فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلها مثل حرها"[5].
تلك النار التي ما إن ترى أصحابها حتى تتغيظ وتزفر تريد الانقضاض عليهم جزاء لما اقترفوا من السيئات وابتعادهم عن الطريق القويم والصراط المستقيم، فلو ترى على وجوههم الذلة والانكسار والخوف وهم يقادون إلى جهنم يريدون الخلاص ويتمنون الرجوع حتى يعملوا صالحا ولكن هيهات... {وَالذِينَ كَسَبُوا السّيِئاتِ جَزَاءُ سَيِئَةٍ بِمِثْلِهَا وتَرهَقُهُم ذِلَّةٌ مالَهُم منَ اللهِ مِن عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغشِيَت وُجُوهُهُم قِطَعاً مِن الليلِ مُظلِماً أُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ}.
فمن يخلصهم من عذاب الله؟.. ومن يعصمهم من بطشه وهو الجبار الذي لا عاصم من أمره إلا من رحم ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه.
سئل أبو حازم التابعي رحمه الله: كيف القدوم على الآخرة؟، قال: "أما المحسن فإنه يقدم على الآخرة كالغائب الذي يقدم على أهله من سفر بعيد، وأما قدوم المسيء فكالعبد الآبق يؤخذ فيشد كتافه فيؤتى به إلى سيد فظّ غليظ فإن شاء عفا عنه وإن شاء عذب".
فاعمل يا أخي لذلك اليوم وتذكر الرحيل والقدوم على الله، وانظر في نفسك هل أخذت معك من الزاد ما يبلغك الغاية المنشودة والخلاص من عذاب الله في ذلك اليوم العصيب؟.. أم تريد أن تكون من الذين قال الله جل وعلا عنهم: {إنَّ الذِينَ لاَ يَرجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالحَيَاةِ الدُنيَا واطمَأنُّوا بِهَا والذِينَ هُم عَن آَيَاتِنَا غَافِلُون * أُولَئِكَ مَأوَاهمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ}.
احذر أن تكون من هؤلاء واقدم على طاعة ربك ولا تكن من الذين عمروا دنياهم بخراب آخرتهم ثم رحلوا عن الدنيا وملذاتها ولم يأخذوا منها شيئاً فخسروا دينهم ودنياهم..
نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقّع
فهاهم قدموا على ربهم الذي لا يظلم أحد، فاحذر أن تكون عاقبتك مثلهم فاليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل.
اختر صديق السفر..
أخيّ.. تعلم أن السفر إذا كان طويلاً فإنه من الواجب أن يختار الإنسان له صديقاً ورفيقاً يعينه بعد الله عز وجل على قطع الطريق، فلعلّ هذا الإنسان يصيبه مرض أو يتكاسل في أثناء سيره من طول الطريق، وهنا يجد أن الرفيق الذي اختاره عوناً له يأخذ بيده ويمدّ له يد المساعدة حتى يصلوا إلى المكان الذي سافروا إليه.
ونحن في هذه الدنيا مسافرون ولا شك أن السفر شاق ومتعب لذلك فإن من الواجب على المرء أن يختار الرفيق الذي يكون له عوناً على طاعة الله.
الرفيق الذي إذ سقط حمله، وإذا جزع صبّره، وإذا تعب أسنده حتى يصل وإياه إلى المرحلة الأخيرة.
حتى إذا مات أحدهما دفنه الآخر وصلى عليه ودعا له بالرحمة واستبشر له خيراً بما مات عليه من الطاعة.
ولذلك إذا أردت أن تكون من أهل الصلاح فصاحب أهل التقى والخير الذين لا تسمع منهم ما يؤذي مشاعرك، ولا ترى منهم ما يكون سبباً في موت حيائك، ولا تجني من وراء صحبتهم إلا ثناء الناس ومحبتهم لك وثقتهم بك، خصوصاً عندما يرون فيك الأخ النصوح والقلب الكبير الذي يريد لهم الخير ويسعى جاهداً لتوصيله لهم، وهذا من ثمرات الصحبة الطيبة الذين يتواصون بالخير فيما بينهم ويصبرون على ما ينالهم من الأذى حتى يبلغوا دعوة ربهم.
وإياك وصحبة السوء الذين لا تجني بسبب صحبتك إياهم إلا استهجان الناس واحتقارهم وبغضهم لك.
رفقاء السوء الذين لا يزالون بصاحبهم حتى إذا أوقعوه بمصيبة تقصم ظهره تركوه وحيداً يكابد العناء ويعض أصابع الندم وولّوا مدبرين عنه.
فكم من شاب وقع في المخدرات.. وآخر وقع في جريمة أخلاقية.. وآخر انعدمت غيرته وغير ذلك من قواصم الظهر.. كل ذلك بسبب صديق السوء الذي تفنن في إضلاله حتى صار مثلاً في الانحراف بعد أن كان أملا مشرقاً يرجى منه أن يكون عنصراً نافعاً لأمته.
هذا في الدنيا وأما في الآخرة، فإنه يتخلى عنه ويتبرأ منه، وتظهر العداوة بينهما بعد أن كانا رفيقين، فكل صحبة تقوم على المعاصي والمنكرات تكون هذه عاقبتها، قال تعالى: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً * يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا}.
فهو يتألم ويتحسّر على تلك الصحبة التي لم يكن لها رباط وثيق ولم تكن على طاعة الله، ويلقي باللوم على صديقه الذي أغواه ويعض أصابع الندم، ولكن حين لا ينفع الندم.
فإذا عرفت أنّك في سفر وتيقنت من طول الطريق فاختر من يعينك حتى تصل إلى آخر المشوار.
سئل الحسن البصري: يا أبا سعيد كيف نصنع بمجالسة أقوام ها هنا يحدثوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟
فقال: "إنك والله لأن تصحب أقواماً يخوفونك حتى تدرك أمناً خير من أن تصحب أقواماً يؤمنونك، حتى تلحقك المخاوف"[6].
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
لا يغرنك طول الأمل..
كم من أناس اغتروا بشبابهم، وظنّوا انهم سيعيشون طويلاً فأسرفوا على أنفسهم بالمعاصي، وزين لهم الشيطان أعمالهم وصدهم عن السبيل حتى جاءهم الموت بغتة، فرحلوا عن هذه الدنيا ولم يأخذوا معهم من ملذاتها شيئاً يتزودون به ويكون عوناً لهم في سفرهم الطويل.
وقد كان عليّ رضي الله عنه يحذر أصحابه من طول الأمل ويقول: "إن أخوف ما أخاف عليكم طول الأمل واتباع الهوى، فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق..".
ولذا فإن الإنسان إذا أطلق لنفسه العنان فلن تنقاد له بسهولة ويسر، لأن النفس بطبيعتها تميل إلى الراحة والدعة وتحب اللهو والعبث ويعينها على ذلك الشيطان الذي يغرر بهذا الإنسان ويزين له زخارف الحياة ويصور له أنه لن يغادر هذه الحياة ويخدعه ويمنيه ويقول له: إنك ما زلت صغيراً والعمر أمامك طويل فلا تستعجل، تمتّع بشبابك وذق طعم الدنيا ولا يزال الوقت مبكراً على التوبة فإذا تقدم بك العمر وذقت ملذّات الدنيا وشبعت منها، فعند ذلك تب إلى الله، والله غفور رحيم، وهكذا يغرر به ولا يدري هل سيعيش حتى يتوب أو أنه سيرحل قبل أن يصل هذه المرحلة.
والنفس كالطفل إن لم تهمله شبّ على حب الرضـاع وإن تفطمـه ينفطم
فجاهد النفس والشيطـان واعصهما وإن همـا محّضـاك النصـح فاتّهم
ولا تطـع فيهما خصماً ولا حكماً فأنت تعلـم كيـد الخصم والحكم
فعليك يا أخي أن تتجّنب طريق المعاصي ولا تطع الشيطان ولا تتبع خطواته، فإن الشيطان لم يزل بأناس يمنيهم ويزين لهم حتى أرداهم في نار جهنم والعياذ بالله..
التوبة... التوبة
بادر بالتوبة والرجوع إلى الله فإن في ذلك النجاة والخلاص، وتأمل سيرة سلفك الصالح، وانظر إلى أي مدى وصلت بهم الخشية من الله، فكن مقتدياً بهم، واسلك طريقهم، فإن في ذلك الخير كله.. وإياك أن تستهين بالذنب مهما كان صغيراً، ولا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظم من عصيت، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحقّرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه"[7].
فلا تقل هذه صغيرة وهذا ذنب هين فإنك لا تدري لعل هذا العمل الذي تستصغره يكون سبباً في هلاكك، لذلك كان السلف على كثرة أعمالهم وتقواهم كانوا يخشون الله جل وعلا حق خشيته ويخافون منه خوف الذنب وكأنهم أكثر الناس ذنوباً وذلك لرقة قلوبهم وقربهم من الله.
كان الإمام الحسن البصري يبكي في الليل حتى يبكي جيرانه فيأتي أحدهم إليه في الغداة ويقول: لقد أبكيت أهلنا، فيقول له: إني قلت يا حسن لعل الله نظر إليك على بعض هناتك، فقال: اعمل ما شئت لست أقبل منك شيئاً[8].
وكان ذات يوم صائماً فأتى له بكوب من ماء ليفطر عليه فلمّا أدناه من فيه بكى، فقيل له مالك؟ فقال: تذكرت أمنية أهل النار وقولهم لأهل الجنة: {أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله} وتذكرت ما أجيبوا به: {إن الله حرمهما على الكافرين}.
وقام منصور بن زاذان ذات يوم فتوضأ فلما فرغ دمعت عيناه ثم جعل يبكي حتى انقطع صوته فقيل له: رحمك الله ما شأنك؟ قال: وأي شأن أعظم من شأني؟ إني أريد أن أقوم بين يدي من لا تأخذه سنة ولا نوم فلعله يعرض عنيّ[9].
أخيّ:
انظر إلى أحوال كثير من الشباب الذين تاهوا وضاعوا وانحرفوا عن الصراط المستقيم، ماذا جنوا من طول الطريق واقتراف المعاصي؟!
هل كانت المعاصي سبباً في سعادتهم؟..أم كانت سبباً في شقائهم وضيق صدورهم؟
فإلى متى هذه الحيرة؟!
دع الحيرة وأقبل على الله، وأجب داعي الله سبحانه وتعالى وإياك والتسويف بالتوبة، فإنك لا تدري متى ساعة الرحيل، واعلم أن غاية السعادة وانشراح الصدور إنما هو في طاعة الله واتباع أوامره والإنابة إليه سبحانه.
{فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصّعّد في السماء}.