وقفة.. قبل ضياع العمر
[ أسباب العنوسة.. ]
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمن أين نبدأ؟.. ونحن نريد أن نتكلم عن موضوع شائك بات واضحاً جلي، وباتت آثاره ظاهرة على الساحة، وزادت معاناة الكثير بسبب هذا الداء العضال.
والموضوع قبل كل شيء يحتاج إلى قلب واع، وأذن صاغية، وفكر ناضج، يدرك حجم هذه القضية التي نحن بصدد الحديث عنها، ويتفكر في أسبابها، ويستخلص من هذه الأسباب حلولاً مناسبة، ليصل إلى المرفأ الآمن قبل ضياع العمر.
ولذلك فإنّا نريد أن نتكلم عن تلك الأشجار التي انحت، وهاجمتها رياح الخريف فتساقطت أوراقها ويبست أغصانه، وعن تلك الأزهار المتفتحة التي ذبلت وتساقطت، وذهب شذى عطره، وبعضها الآخر الذي شارف على حافات الذبول، فتحتاج إلى من يسقيها الماء من الينابيع الصافية، التي تعيد إليها النضارة بيد حانية مشفقة.
وحتى لايبدو الكلام غريباً، فإننا نتكلم عن أمر ملموس من واقع الحياة، وهو عن شابات مضت حياتهن، وتقدم بهن العمر، ولم يزلن بغير زواج، فأصبحن كالأشجار المنحنية، وكالزهور الذابلة.
وهذه القضية التي نريد الأسهاب فيها هي: (قضية العنوسة) أو (تأخير الزواج إلى سن كبيرة)، ونحاول الإلمام بأكثر الأسباب شيوعاً، وأكثرها تأثيراً، لعلنا نصل إلى حل لكثير من المشاكل المعروضة وأسبابها الرئيسة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه"[1].
فلهذا أردت كتابة هذه الرسالة، نصحاً وإرشاداً، وتنبيهاً للغافلين، وتحذيراً من مغبة الأمر الذي تؤول إليه هذه المشكلة المستعصية، التي أخذ الكثيرون يساهمون في انتشارها، من حيث شعروا أو من حيث لا يشعرون، حتى ممن يظن فيهم أن الحلول عندهم.. ولكن للأسف..
وكنا نستطب إذا مرضنـــــا فصار هلاكنا بيــد الطبيــــب
وقبل أن أشرع وأسترسل في ذكر الأسباب المؤدية إلى تلك الفاجعة، لا يفوتني أن أذكّرِ الأخوات اللاتي يعانين من هذه الآثار بأمر عظيم، ومطلب مهم، خصوصاً في مثل هذا الوضع.. ألا وهو (الصبر).
ولأن الصبر من أشق الأمور على النفس حين وقوع المصائب، فقد أجزل الله جل وعلا المثوبة لمن تحلى به، حيث قال: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}[2]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس لأحد إلا المؤمن، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراّ له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له"[3].
وأقول لمن ابتليت بهذا ـ أيضاً ـ: إياكِ أن تستطيلي زمان البلاء وتضجري مما حَلَّ بك فالحق: "أن الزمان لا يثبت على حال كما قال الله ـ تعالى ـ: {وتلك الأيام نداولها بين الناس}، فتارة فقر، وتارة غنى، وتارة عِزّ، وتارة ذُل، فالسعيد من لازم أصلاً واحداً على كل حال، وهو تقوى الله عز وجل، فإنه إن استغنى زانته، وإن افتقر فتحت له أبواب الصبر، وإن عوفي تمت النعمة عليه، وإن ابتلي جملته، ولا يضره إن نزل به الزمان أو صعد، أو أعراه أو أشبعه أو أجاعه، لأن جميع الأشياء تزول وتتغير، والتقوى أصل السلامة: حارس لا ينام، يأخذ باليد عند العثرة، ويوافق عند الحدود"[4].
فعليكِ إن ابتليت بهذا أن تصبري على البلاء، وتحتسبي مصيبتك عند الله: {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}[5]، فمهما طال ليل البلاء فلا بد أن ينجلي، ولا بدَّ لرياح الخريف أن ترحل، ولا بد لغيوم الحزن أن تنقشع، وتظهر شمس الأمل.
ولرُبَّ نازلـة يضيق بها الفـتى ذرعـاً وعند الله منـها المخـرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فُرِجَت وكـنت أظنها لا تُفـرج
وعلى باب الموضوع لا بدّ من كلمة، وهي:
أنه عندما كثرت هذه المشكلة بشكل ملفت للنظر، كان من الواجب التصدي لها، وتذكير الناس بالأمر الفطري الذي هو من قوام الحياة الهانئة، وهو الزواج، الذي فيه الاستقرار والطمأنينة، والحياة الآمنة من المخاوف، كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}[6]، فجعل الله المرأة مأوى للرجل، يأوي إليها بعد العناء والمشقة، وجعل بينهم الألفة والمحبة والرأفة، في ظل حياة شريفة هانئة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة"[7].
فالزواج تلبية لنداء الفطرة التي جعلها الله في قلوب عباده، وسبباً في الاستقرار العائلي، وترابط وثيق بين الزوج والزوجة ليعين أحدهما الآخر على تيسير سبل الراحة.
وهو موضوع حري أن يطرق وأن نذكَّر به لأهميته القصوى، وأن نذكر بالأسباب التي تحول دون الوصول إلى هذه الغاية النبيلة، حتى تُحذر وينتبه لها، وتبذل الخطوات التي تمنع من الوقوع في العواقب الوخيمة الناتجة عن تلك الأسباب.
المثالية الحالمة..
والمثالية الحالمة التي نقصدها هي:
عدم الاقتصار على مهمّات الشيء وضرورياته، وعدم تنـزيله على واقع الحياة، فتجد أن بعض النساء رسمت لها خطاً معيناً لا تريد أن تتجاوزه على أي حال، ووضعت شروطاً خاصة في ذهنها، وكيفية معينة للزوج الذي تحلم به، لا ترضى أن تتنازل عن شيء منه، فهي تريد أن تتحقق بالرجل الذي يتقدم لطلب الزواج منها كل صفات الكمال الحسنة بمقياسها.
وهذا يختلف من امرأة إلى أخرى فبعضهن تحلم بالمنصب المرموق، والشهرة والمكانة العالية بين رجال المجتمع، وبعضهن تشترط الثقافة العالية، وبعضهن تشترط الوسامة.. أو غير ذلك، إلى آخر تلك الشروط التي لا نهاية له، مع أن بعضهن لا يحملن تلك الصفات التي يشترطنها أصلاً.
ومما يزيد الأمر سوءاً إذا كانت هذه المرأة من صاحبات المؤهلات السابقة، فإن هذا الأمر يؤدي بها إلى أنها لا تقبل من هو أدنى مستوى منها، بل ولعل بعضهن يخالجها الظن أنها متى دامت حققت مكانة عالية فإن لها حينئذ أن تختار الرجل المؤهل للفوز به وفي أي وقت شاءت، فتستمر برفض الرجل تلو الآخر وتظن أن العدد سيزداد، فتستمر في موقفها أملاً أن يأتي الذي تريد، أو ما تسميه بعضهن بـ(فارس الأحلام)، ولا تدري هذه المسكينة لعل فارس الأحلام يتعثر فرسه، فتستيقظ من سباتها العميق وتصحو من حلمها الطويل، فتصطدم بأرض الواقع، فتجد أن قطار العمر قد فات، وبقيت هي محطة خاوية تسترجع الذكريات، وتنتابها المخاوف من الغد المجهول.
تقول (س. ل) تحكي عن نفسها: "قالوا إنني عبقرية، فمنذ طفولتي اكتشف أساتذتي نبوغي، وبكل الاهتمام أحاطوني، ومثلهم فعل أهلي، أطربتني كلمات المديح والثناء فأدمنتها، وبمرور الوقت صارت تلك الكلمات نفسها سياطاً تلهبني، وتحثني على بذل المزيد من الجهد لكي أجد مكاناً على التي لا يصل إليها إلا القليل من الناس، وعندما تربعت على القمة أخيراً وجاء موعد تحقيق الحلم بالزواج لم أستطع أن أقبل إلا شخصاً يجلس على القمة مثلي، ذكي وناجح مثلي، عبقري مثلي، لأنني لا يمكن أن أعترف بزوج أقل من قدراتي وأقل من نجاحي، فالمأساة ستكون في تلك الحالة أنني سأتحول إلى رجل يتحمل كل المسؤولية فأنسى أنوثتي، أو ـ وهو الأسوأ ـ أن أتخلى عن نجاحي وقمتي لأصبح زوجة لرجل ليست له قدراتي، وعندها يكون فشلنا معاً هو الأمر الأكيد.
سِنِّي تجاوز الثلاثين بشهور، بدأ يتسرب القلق إلى نفسي، لم يعد أحد يطرق بابي للزواج، راجعت نفسي وراجعت أسماء من تقدموا لي، وعرفت أن الكثير منهم قد وجد من هن أفضل مني.
ندمت.. وتخلّيت عن فكرة كامل الأوصاف، ولكني ما زلت أنتظر طرقات على بابي.." اهـ.
هذه ضحية من آلاف الضحايا اللاتي خدعن أنفسهن بهذه المثالية الحالمة، فقد كانت بالأمس يتزاحم الخطاب على بابها، وهي اليوم مطرقة سمعها تنتظر أن يطرق خطيب بابها الذي مَلَّ الصمت، ولو كان لا يحمل (صفات فارس الأحلام)، لعله ينتشلها من المخاوف والهموم التي عشعشت في سويداء قلبها.
فهي وعلى الرغم من أنها دخلت في السن الحرجة فقد انتبهت أخيراً على مضي عمرها وتفلّته من بين يديه، فأرادت أن تستدرك البقية.
ولكن المصيبة بمن خيّمت الغفلة على عقلها وعينيها فلم تعد تميز ولا ترى.. ولم تعتبر بمن مضى، وهذه أمثلة على هذا النوع..
تقول (س. م): "رغم أنني على أبواب الأربعين ولكن ما زلت أطلب أن يكون زوجي إنساناً محترماً، ومستواه المادي فوق المتوسط، ويحمل شهادة عالية.
ولكن حقيقة أنني بعد هذا العمر أشعر حينما يزورنا أخواتي مع أزواجهن وأبنائهن عند خروجهم، أشعر بحزن شديد، وبرغبة أن أكون مثلهن أزور أهلي وأخرج مع زوجي وأبنائي..." اهـ.
وتقول (ل. م): "الآن وأنا أخطو نحو الثلاثين وفرصة زواجي ضئيلة إلا أنني لم أتنازل عن شرطي في أن يكون الزوج الذي يتقدم لي "غنياً"، فهذا أهم شيء لأنني معتادة على مستوى معيشي معّين، وأفضل أن أعيش بأفضل مما أنا فيه، ولكن الحقيقة التي لا أستطيع أن أخفيها أنني عصبية وحساسة جداً من ناحية هذا الموضوع، وأتمنى أن أتزوج اليوم قبل غد، وكلما شاهدت أخواتي وأزواجهن أزداد حسرة..." اهـ.
وتقول إحداهن: "ولأنني محظوظة فلم يقف عطاء الله لي عند هذا الحد، بل أنبتني وسط عائلة ثرية عريقة، وزادني بالعقل الراجح، العقل الذي مكنني من إنهاء دراستي بكلية الطب بتفوق، وما دمت هكذا فمن حقي اختيار العريس المناسب، سعيد الحظ الذي سيفوز بكل هذا.. طابور طويل من راغبي الزواج يزداد طولاً يوماً وراء يوم يرضي غروري، ويخيفني عندما تردد أمي قولها المأثور: (من كثر خطّابها بارت)، ولكني لم أتنازل، ولن أبالي بتساقط الأيام حولي، ولا بعمري الذي تجاوز حدود المسموح، فربما وجدت في آخر الطابور فارس أحلامي الذي تداعب صورته خيالي ويستحقني" اهـ.
ونحن نقول لها ولمن تشبه حالتها: لربما وجدت الذي تريد، أو يكون حالها كحال سابقاتها ممن تهافتت أعمارهن، وتحطمت آمالهن فوق صخور الواقع بسبب المثالية الحالمة والبحث عن فارس الأحلام..!
المحيط العائلي..
كثير من الأحيان يكون المحيط العائلي عقبة كئوداً، بل ويؤثر تأثيراً سلبياً بليغاً في (تأخير الزواج)، وقد تختلف الآثار الناتجة عن هذا المحيط من مجتمع إلى مجتمع، بل ومن منزل إلى منزل.
ففي بعض المجتمعات تجد أن رب الأسرة من النوع الذي لا يبالي ولا ينظر إلى الموضوع بعين الاهتمام.. ولهذا لا تجده يتخذ الأسباب التي تحول دون جلوس ابنته إلى سن متأخرة، خصوصاً إذا كانت تلك الفتاة ليس لديها من الأسباب المادية ما يعوقها عن الزواج.
ولعل هذه (اللامبالاة) لها دوافع أخرى ومآرب وحشية..
وذلك أن بعض الآباء إذا كانت ابنته (تعمل) فإنه يحاول إعاقتها بأي وسيلة، وذلك ليستغل راتبها الذي تتقاضاه!..
وهذا الفعل الشنيع لا يرتكبه من كان في قلبه رحمة ورفق على ما استرعاه الله عليه، أو أنه يرفض كل من يتقدم لها إذا كان من خارج القبيلة أو العائلة ولو كان صالحاً، طمعاً في أن يأتيها رجل من قبيلته أو عائلته ولو كان من أفسق الناس، فإذا لم يأت المطلوب، أو أنه أتى ولكن الفتاة لا تريده لأسباب دينية أو أخلاقية أو نفسية أو غير ذلك، فإنه يحكم عليها بالجلوس والانتظار، ولا يتنازل ذلك الوالد عن شرطه، ولا يبالي بأن تجلس ابنته عنده ولو بلغت من العمر عتياً.
بل وأحياناً تجد في البيت الواحد أكثر من ضحية على هذا الحال.. وكل هذا لا يهمّ، المهم أن لا يطرأ على العائلة أيّ أمر يقدح بالنظام الذي سارت عليه ردحاً من الزمان!!..
وهنا ـ أيضاً ـ قضية شائكة ومعضلة وهي أن بعض الناس إذا بلغت ابنته أو أخته سن الزواج فإنه يضع لها قيمة لا يمكن أن يتنازل عن قرش واحد منها، وكأنها سلعة تباع وتشترى، وهذا المبلغ الضخم، الذي يضعه (ثمناً لها) يتسبب في كثير من الأحيان في انصراف أنظار الخطاب عن تلك الفتاة المسكينة.
ثم إن هذا التصرف إنما هو من تضييع الأمانة، والخيانة لما استرعاه الله عليه من أولئك النساء الضعيفات.. فلا يضع سعادة ابنته ومصلحتها نصب عينيه، بل يفكر فيما تدرّه عليه من أرباح، وكأنه يريد استرداد ما أنفقه على تربيتها طوال مدة جلوسها عنده. فهل هذا من الشفقة والإحسان في شيء..؟!.
أين هذا وأمثاله عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن، كن له ستراً من النار"[8]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان له أختان أو ابنتان فأحسن إليهما ما صحبتاه، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين ـ وقرن بين أصبعيه ـ"[9].
فأين الإحسان إلى هؤلاء النساء؟ وأين حسن الصحبة؟ أم أن المادية طغت حتى على مشاعر الأبوّة والأخوّة، فجعلتها تتحول إلى وحشية عارمة، لا تفكر إلاّ (بالكم)، دون التفكير في مصلحة تلك الفتيات الأسارى في البيوت، واللاتي ينتظرن بصيصاً من نور يكتشف الظلمة الحالكة التي خيّمت على أعينهن طويلاً..
ولو كان سهماً واحداً لاتّقيته ولكنه سهم وثـان وثـالث
فبالرغم من الأسباب المذكورة والتي تصدر من المحيط العائلي للمرأة إلا أن هناك ما هو أعظم جرماً من ذلك.
وهو: أن في بعض المجتمعات القبلية عادة تسمى (التحجير).. وهذه العادة السيئة الرديئة تعني: أنه لا يحق للفتاة أن تتزوج إلا من ابن عمها، فإن رفضت وكانت لا تريده لأي سبب كان، إما لأنه لا يناسبها، أو لخلل في أخلاقه، أو لأنه يكبرها بكثير في العمر، أو لأن التكافؤ بينهما معدوم في أمور معينة، أو خلاف ذلك من الأسباب، فإنه عند ذلك يقوم بمنعها من الزواج من سواه، ولو أدّى ذلك إلى أفدح النتائج.. فإما أن تتزوجه، أو عساها أن تجلس إلى آخر العمر بغير زواج.
وهذه العادة الرديئة المنتنة، التي تنُّم عن تحجّر عقول فاعليها، لطالما وقع ضحيتها كثير من النساء اللاتي لا حول لهن ولا قوة.. وكم من فتاة ذات خلق ودين وعفة ظلت حبيسة الجدران بغير زواج، لأنها رفضت الزواج من ابن عمها الفاسق المستهتر، فعاندها وحجر عليها، فأصبحت بين اختيارين (أحلاهما مر): إما أن تبقى بدون زواج.. أو أنها ترضى بابن عمها الذي لا تريده.
بل والأعجب من ذلك أن يكون الرجل طاعناً في السن، ويحجر على ابنة عمه التي في سن بناته!!.. وما ذلك إلا عناداً وتمشِّياً مع العادات القبلية، التي أصبحت عنده بمكانة رفيعة من التقديس لا يمكن مخالفتها.. فتقع تلك المسكينة في حيرة، إن رفضته حجّر عليها، وإن وافقت عليه عاشت حياة بؤس وشقاء، تحوّلت حياتها إلى جحيم لا يطاق.
وكم من فتاة وافقت على ابن عمها بعد أن حجّر عليها طويلاً فلم تجد مخلصاً إلا أن توافق على الزواج منه فعاشت حياة كئيبة... فهي تبغضه لأنها تراه قد تسبب في دمار حياتها وضياع عمرها، وأنه لم يحجر عليها ولم يتزوجها إلا عناداً واستكباراً أن تخرج من إطار العائلة، وهو يرى أنها تبغضه ولم توافق عليه إلاّ مرغمة، فتتحول الحياة إلى شقاء دائم وعناء مستمر.
ولا شك أن هذه العادة من العادات الجاهلية، وهي من أعظم الظلم. والظلم مرتعه وخيم، وعاقبته سيئة، والله جل وعلا يجازي صاحبه في الدنيا قبل الآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليملي الظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته"[10].
وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الفعل كثيراً، فقال وهو يوصي معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ: "واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"[11].
فكيف بذلك الظالم إذا رفعت تلك المظلومة يديها إلى السماء تستغيث بربها، وتستنصره على من ظلمها؟؟
وكيف به إذا اشتكت إلى خالقها ما عانته من ظلم هذا المتسلط، الذي وقف حجر عثرة في طريقها؟؟..
ألا يظن بأن الله عز وجل ناصرها؟؟..
بلى والله.. فقد أقسم ربنا سبحانه تعالى على نصرة المظلوم، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا دعوة المظلوم، فإنها تحمل على الغمام فيقول الله: وعزتي وجلالي لانصرنك ولو بعد حين"[12].
فليحذر المسلم من الظلم، وليحذر من دعوة مظلومٍ تصعد إلى السماء وهو غافل عنها غير منتبه إلى أن تحلَّ عاقبتها به.
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنـام عيناك والمظلـوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
وليتذكر وقوفه بين يدي الله سبحانه تعالى يوم القيامة، يبلغ الخوف بالعباد منتهاه: {وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين * ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع * يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}[13].
وحينئذ يقتصُّ الله سبحانه للمظلوم من الظالم.
فويلٌ لمن حملوا أوزار الناس على ظهورهم..
{أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ}.
عمل المرأة..
الحقيقة أن هذه النقطة غاية في الحساسية، وتريد من يقف أمامها بتجّرد، فيعرف أبعاد هذه القضية، والتي كثير من النساء في غفلة عن آثارها السلبية، ولا يصحين من هذه الغفلة إلا على الصدمة المفزعة، وتشتت الأحلام.
وحتى لا يحمل الكلام على غير معناه، ويفهم منه ما لا يراد، من الواجب أن ننبِّه على أننا نتكلم عن وظيفة المرأة من جانب تأثيرها السلبي في تأخير الزواج فقط، وبيان بعض الأسباب المتعلقة بهذه القضية، والتي تؤدي إلى جلوسها إلى سن متأخرة في أغلب الأحيان.
ألا وإن الناظر في أحوال النساء العاملات بتمعّن ليرى العجب العجاب، ولغلبت عليه الهموم والأحزان لما يرى من المآسي المذهلة التي تحرق قلب كل غيور، وتثقله بالهموم.
وإن من أعظم المآسي أن تجد امرأة بدأ يتقدم بها العمر، ودخلت في السن الحرجة ولم تزل غير متزوجة، وقد استولى عليها الخوف والقلق من أن يعبر قطار الزواج من حيلتها دون توقف ودون رجعة.. وهنا ستنظر إلى من حولها من النساء.. فتجد أن فلانة خُطبت.. وفلانة قد تزوجت.. وفلانة قد أنجبت.. وهي لم تزل على حالها، تصارع الهموم التي تثقل كاهلها، وتحطم قلبها المثخن بالجراح، وصدرها المليء بالأحزان، وكأن لسان حالها يقول:
رب يوم بكيت فيه فلمـا صرت في غيره بكيت عليه
وحتى نعرف مدى تأثير العمل على المرأة، كان من الأهمية بمكان أن ننظر للمراحل التي تمرّ بها المرأة، والتي تتسبب في جلوسها إلى سن متأخرة بغير زواج..
فأحياناً يكون المؤثّر الفعلي لجلوسها:
المرحلة التي تسبق العمل وهي الدراسة، وأحياناً يكون المؤثر هو نوع المجال الذي تعمل به، وأحياناً يكون المؤثر الفعلي هو اهتمامها بالجانب العملي دون النظر إلى الجانب الاجتماعي الذي تعيش فيه.
وحتى يكون الموضوع أكثر تفصيلاً وتوضيحاً سنأخذ كل نقطة من هذه النقاط على حِدَة، لعلنا نستطيع أن نوصل الفكرة التي نسعى لبيانها بسهولة ويسر.
فأما أولى هذه المراحل..
هي المرحلة التي تسبق الوظيفة، ألا وهي الدراسة، ونقصد بالذات الدراسة الجامعية وما يوازيه، لأن في هذه المرحلة تكون الفتاة قد بلغت سن النضوج ودخلت في سن الزواج، فإذا تأخّرت قليلاً دارت حولها المخاوف.
وهذه المرحلة لها دور كبير في هذه القضية، إذ هي الخطوة الأولى والأكثر تمهيداً لعمل المرأة.
وتختلف النساء من امرأة إلى أخرى بالنسبة للنظر لمكانة الدراسة وأهميتها.
فأحياناً تكون الدراسة من أكبر المعوقات عن الزواج، وذلك أن هذه المرأة وهي في خِضَمّ الأحداث، وزحمة التفكير، لا تفكر إلا بالشهادة العالية التي تصل بها إلى أعلى المراتب، وتؤهلها لأن تكون عنصراً هاماً في المجتمع على حدِّ تفكيره، لذلك فإنها لا توافق على أيِّ رجل يتقدم لطلب الزواج منه، وذلك لأنها ترى أن الزواج يشغلها عن مواصلة المسيرة ويقف عائقاً دون الغاية التي تريد الوصول إليها.
ولا تدري لعلّ الدراسة تطول بها فلا تنتهى منها إلا وقد تقدم بها العمر، وأصبحت فرصة الزواج بالنسبة لها ضئيلة إلى حدٍّ كبير.
فهي درست واجتهدت حتى تصل إلى المنزلة التي تريد، وتحصل على الشهادة العالية.. ولكنها أهملت الأهم من هذا وهو الاستقرار العائلي الذي تحلم به كل فتاة.. وإن أبدت غير هذا.
فها هي غلّبت جانب السعادة الزائفة على السعادة الحقيقية، ولم تستيقظ من غفلتها إلا وقد فات من عمرها الكثير.. فماذا كانت النتيجة؟..
همٌّ.. حسرة.. وتَنَدُّم على الماضي..ٌ
كتبت إحداهن تقول: (أنا التي جنيت على نفسي)..
"تصدر مني تنهيدة يصحبها سيل جارف من الدموع التي تنطلق من عينيّ اللتين أصبحتا مأوى للأحزان، وملاذاً للهموم.
كنت أقول: هذا لا يعجبني، وهذا لا يناسبني، وهذا ليس معه المؤهلات التي توازي مؤهلاتي، وذاك ليس غنياً، مواصفاته لا تتفق مع مواصفاتي.. وأنا أعلم أنه عبث، وتخبُّط، وشروط تعجيزية لا مبرر لها..
لقد جنيت على نفسي.. ها أنذا أعيش وحيدة لا أنيس ولا قريب، الكل مشغول بنفسه وحياته، لقد نسيني الجميع، لم يسأل عني أحد بعد أن كنت محور اهتمام الجميع.
وبدأت المخاوف تنتابني منذ ذلك اليوم الذي رفضت به آخر طارق لبابي، لقد أغلقته في وجوههم جميعاً، واليوم ها هم يردّون عليّ بالمثل.
لقد أصبحت كلمة (عانس) تردد على مسمعي وبصفة يوميّة.
طالباتي في المدرسة يقلن: مسكينة، إنها تصب جام غضبها علينا لأنها (عانس) لم تتزوج، (لو فيها خير ما جلست إلى الآن).
أصبحت كلمة (عانس) بمثابة الخنجر الذي يصيب صميم فؤادي، بل إن وقع هذه الكلمة على نفسي أشد مليون مرة من طعنة خنجر".
ها هي لم تجن بعد مضي عمرها إلا الندم والتحسّر على عمرها الذي ضاع من بين يديها، وهذا هو حال شبيهاتها.
إن بعض النساء وهي في نشوة السعادة المزعومة، وفي شدة انهماكها بالدراسة والسعي وراء تحقيق الأمنية المنشودة، تتجاهل كل شيء يعترض طريقها، ولا تفكر بما يؤول إليه أمره، ولكن سرعان ما ينقشع ذلك الظلام الذي خيّم على عينها، وتستبين الحقائق.
ثم إذا استيقظت من نومها العميق، وتجلّت لها الحقائق، وجدت أن تلك الغاية المزعومة التي سعت إلى تحقيقها من خلال الدراسة لا تساوي شيئاً بالنسبة لأن يكون عندها بيت وزوج وأولاد، وهناك تجد أن الموقف الذي كانت تسعى إلى أن يحقق لها السعادة كان سبباً في شقاوتها..
ومنظر كان بالسراء يضحـكني يا قرب ما كان بالضراء يبكيني
وأما المرحلة الثانية التي تَمُرُّ على المرأة العاملة، فهي نوع المجال الذي تعمل به.
وهذا ـ أيضاً ـ له دور فعّال وسلبي في تأخير الزواج إلى سن متأخّرة، ومثال ذلك: أن بعض النساء تعمل في مكان تختلط فيه مع الرجال، مما يؤدي إلى فقدانها كثيراً من أنوثتها، وكسر الحاجز الواجب وجوده في التعامل مع الرجال، فتجدها تتعامل معهم في غاية اللامبالاة، وكأنها تتعامل مع بنات جنسها بحجة الزمالة!!..
وهذا لا يسلم منه إلا القليل النادر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
بل وأحياناً يكون الأمر صادراً عن طيب نيّة، فتجد المرأة تمزح أو تضحك مع زميلها أو رئيسها في العمل ولا تتحرّج منه، وكأنه أحد محارمه، وهذا بسبب كثرة الممارسة، و..(كثرة المساس تميت الإحساس).
وكثيراً ـ ولا نقول قليلاً ـ ما يؤدي هذا الاختلاط المشين إلى قيام علاقات غير شرعيّة تؤدي بهذه المرأة إلى الزهد في الزواج، أو بانتظار وعد بالزواج من شخص لعّاب له أهداف دنيئة، وليس له مقصود من وراء ذلك إلا اللعب واللهو وإشباع رغبته من الصيد السهل، الذي جاءته إلى حيث مكانه، وأطاعته إلى حيث يريد الدفع بها.
فإذا نال بغيته منها رمى بها واندفع يبحث عن صيد آخر، وأنكر الوعود المعقودة بالزواج منها..
وهذه النتيجة متوقعة وليس بمستغربة، لأنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كما لا يجتنى من الشوك العنب، كذلك لا ينـزل الفجار منازل الأبرار، فاسلكوا أي طريق شئتم، فأي طريق سلكتم وردتم على أهله"[14].
وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه، والحقيقة التي لا مفرّ منه، فإن الذي يريد طريق العفة لا يتخذ هذه الأساليب المشينة والعلاقات المحرمة طريقاً له، بل يأتي البيوت من أبوابها.
ولكن الحقيقة أن هؤلاء الشباب لم يفكروا بتلك المرأة زوجة، بل فكروا بها محطة للعبث والعبور، فإذا انتهوا منها نزلوا في محطة أخرى.. وحين يفكرون بالراحة والاستقرار فإن كثيراً منهم يبحث عن امراة لم يخالطها كدر هذا الاختلاط وما يؤدي إليه من النتائج السلبية.
والشاهد مما تقدم: أن العمل الاختلاطي كثيراً ما يصرف أنظار الرجال عن هذه المرأة، لأن الخاطب يرى أن هذه المرأة التي عملت بين صفوف الرجال قد فقدت شيئاً مهمّاً ممّا خصها الله به، لذلك تجد كثيراً من الشباب يعرض عن المرأة التي عملت في هذه الأمكنة المختلطة، ولا يفكر بها زوجة، ولا يحدث ذلك إلا في حالات قليلة نادرة.
بل والأمر المحيّر أن بعض النساء مع تقدمها في العمر، ودخولها المرحلة الحرجة، وضآلة فرصة الزواج بالنسبة لها، إلا أنها إذا تقدم لها رجل يرغب في الزواج منها، ويطلب منها أن تترك العمل، وتتفرغ لبيتها ترعاه وتدير شؤونه، ترفض ذلك وتعتبره كبتاً لحريتها، بل وتضع بقاءها على وظيفتها شرطاً أساسياً مقابل الموافقة على الزواج، مما يؤدي إلى انصراف الخاطب عنها، والبحث عن سواها.
وهذا أمر خطير جداً..
فمع أن هذه المرأة دخلت في سن حرجة، والزواج بالنسبة لها في هذه الفترة فرصة، لأن الذين يتقدمون لها وهي في هذه السن قلّة، لأن الكثير يبحثون عن صغيرات السن في وقت ضجت به البيوت بالنساء، ومع ذلك أخذت تشترط وكأنها ما زالت صغيرة في السن، والكل سيوافق على شرطها مقابل أن يفوزوا بالزواج منها.
فلابد من وضع الأمور في نصابها الصحيح.. وهذه هي الحكمة، لأن الإنسان أحياناً يكون هو صاحب الكلمة، ولكن في أحيان أُخرى تُفرض عليه بعض الأمور التي لا يملك إلا التسليم والقبول بها.
وعلى الإنسان الحكيم أن يقدم الأمور المهمة على ما سواها.. فماذا يساوي عمل المرأة ـ على ما فيه من الشقاء والنكد وضياع العمر ـ إذا ما قابلناه بما هو أهم منه، وهو الاستقرار والراحة وتكوين أسرة؟؟.
ولا يفهم من هذا الكلام أننا نقصد أن عمل المرأة مهم، بل إن الواقع خلاف ذلك، إذ أن عمل المرأة في كثير من الأحيان وكثير من الأمكنة ضرره أكبر من نفعه.
ثم إن طبائع الناس تختلف من شخص إلى آخر، ولعلّه يقدّر لهذه المرأة أن لا يتقدم لها إلا من هم على نفس هذه الفكرة ـ بأن تترك العمل وتتفرغ لبيتها ـ، وهذا أيضاً يختلف باختلاف المجتمع التي نشأت وعاشت فيه.
فيجب على المرأة أن تراعي كل هذه الأمور، وتراعي المحيط الذي تعيش فيه، وأن تقدّر الأمور بقدرها، وتجعل نظرتها بعيدة إلى ما يؤول إليه مصيره، فإذا جاءها الزوج المناسب الذي ترضى دينه وخلقه تقبل به، وتترك هذا الشرط الذي لا يساوي شيئاً، بالنسبة لأن تكون أمّاً، وزوجةً، ومربيةً فاضلة.
ومن المؤثرات الفعلية التي تدخل ـ أيضاً ـ في إطار عمل المرأة، أمرٌ لا تُكتشف خطورته وسلبياته إلا بعد الوقوع فيه، وذلك الأمر هو أن بعض النساء تهتم بالجانب العملي أكثر من اهتمامها بالجانب الاجتماعي الذي تعيش فيه، وتقدم الوظيفة على الزواج، فترفض كل من يتقدم لها بحجة أنها تريد تحقيق مكانة في عملها، وتكون عنصراً بارزاً، فلا تريد أن يشغلها الزواج عن هذه الغاية التي تسعى إليه، أو أن يحدث أمر آخر وهو: أنها في زحمة انشغالها وانهماكها في عملها لا يكون لديها متسع من الوقت لتفكّر في الزواج، أو بالأصح لا تريد أن تجعل لنفسها وقتاً حتى تفكر في الزواج.. وذلك ظناً منها أن العمل وحده كفيل بأن يحقق لها السعادة، فإذا تقدم بها العمر، وانكشفت لها الحقيقة، علمت أنها كانت تجري وراء سراب، وأن العمل الذي ضحَّت براحتها ووقتها من أجله لم يحقق لها السعادة الحقيقية والاستقرار العائلي الذي تريد، بل إنها نسيت ما هو أهم من العمل، نسيت أن تتزوج، وأن يكون لها زوج تسكن إليه ويأوي إليها، ويتحمل عنها كثيراً من الأعباء ليحقق لها حياة هانئة.
ولكنها لم تكتشف كل ذلك إلا بعد أن تقدم بها العمر، وأحاطت بها المخاوف، واستقرت في قلبها الهموم، ولم تعد تملك إلا الندم والتأسّف على عمرها الذي ارتحل، وقد سلكت طريقاً انحرف بها عن الجادّة الصحيحة.
فها هي خسرت الأسرة والزوج والأولاد.. ولم يبق معها إلا المكانة التي كافحت من أجل أن تصل إليها، بل وحتى هذه المكانة ستزول عنها ذات يوم، وتعطى لغيرها، فماذا يبقى معها؟!.
وقفت أستاذة جامعية أمام طلبتها وطالباتها تلقي خطبة الوداع بمناسبة استقالتها من التدريس فقالت:
"ها أنا قد بلغت الستين من عمري، وصلت فيها إلى أعلى المراكز، نجحت وتقدمت في كل سنة من سنوات عمري، حققت عملاً كبيراً في المجتمع، كل دقيقة في يومي كانت تأتي عليّ بالربح، حصلت على شُهرة كبيرة، وعلى مال كثير، أتيحت لي الفرصة أن أزور العالم كله..
ولكن هل أنا سعيدة الآن بعد أن حققت كل هذه الانتصارات؟..
لقد نسيت في غمرة انشغالي في التدريس والتعليم والسفر والشهرة أن افعل ما هو أهم من ذلك كله بالنسبة للمرأة..
نسيت أن أتزوج، وأن أُنجب أطفالاً، وأن أستقر.
إنني لم أتذكر ذلك إلا عندما جئت لأقدم استقالتي، شعرت في هذه اللحظة أنني لم أفعل شيئاً في حياتي، وأن أجد كل الجهد الذي بذلته طوال هذه السنوات قد ضاع هباءً.
سوف أستقيل، ويمر عام أو اثنان على استقالتي وبعدها ينساني الجميع في غمرة انشغالهم بالحياة..
ولكن لو كنت تزوجت، وكوّنت أسرة كبيرة، لتركت أثراً كبيراً وأحسن في الحياة.
إن وظيفة المرأة هي أن تتزوج وتكوِّن أسرة، وأيُّ مجهود تبذله غير ذلك لا قيمة له في حياتها بالذات.
إني أنصح كل طالبة أن تضع هذه المهام أولاً في اعتبارها...".
فهذا اعتراف من امرأة مرَّت في هذه التجربة الأليمة وخرجت منها وقد خسرت أمراً من أهم مقومات الحياة السعيدة.. خسرت أن يكون لها زوج وأولاد تعيش بينهم، وتنعم بحياة طيبة هانئة، بعيدة عن مشاكل الحياة ولأوائها.
وهذه الواقعة تبيّن حال كثير من النساء اللاتي وصلن إلى نفس النتيجة، وقد جلسن بغير زواج، تتحسّر إحداهن على فوات عمرها بسبب أنها غلّبت جانب الكماليات على الجانب المهم في حياتها، وقد كانت تظن أن الوظيفة وتحقيق المنزلة المرموقة تغنيها عن الزواج والاستقرار العائلي ولكن..
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويذهـب هذا كلـه ويزول
فإذا انكشفت لها الحقيقة التي كانت تعيش في غفلة عنها، واصطدمت أحلامها في صخور الواقع، علمت أنها كانت تركض وراء سراب، وانها أبحرت في بحر متلاطم الأمواج، قذفت بها أمواجه إلى الساحل دون أن ترجع منه بشيء، فوقفت حائرة تصارع الهموم، وتنتظر أن يطرأ على حياتها ما يغير الواقع الذي تعيش فيه.
الانحراف الأخلاقي..
لا شك أن الانحراف الأخلاقي قَلَّ أو كثر له دور بارز في هذه المسألة الشائكة، ويدور هذا السبب المؤثر على أطراف عِدَّة، وأخطر هذه الأطراف هي المرأة.
وذلك لأن الرجل لو كان منحرفاً، فإن هذا لا يؤثر على موقفه، ولو أراد الزواج وجد أمامه عرضاً كبيراً من النساء، خصوصاً في وقت انعكست فيه المفاهيم..!!.
ولكن ليس هو الحال بالنسبة للمرأة..
فالمرأة التي تتعرف على رجل، ويربطها به علاقة مشبوهة، كثيراً ما تكون هذه العلاقة حيلة لبعض الشباب العابث ليغرّر بهذه الفتاة، ويستعمل معها الأساليب الماكرة، ويصوّر أنها الحلم الذي كان يسعى للوصول إليه، وأن الزواج منها هو الهدف الذي يسعى لتحقيقه، وأنها هي ضالته الني كان يبحث عنها زمناً طويلاً حتى وجده، ويستمر بمخادعتها حتى ينال بغيته منها..
حتى إذا الوغد أروى من الفتاة غليله قـال اللئيم وداعاً ففي البنات بديلة
فإذا نال بغيته منها رمى بها، وذهب يبحث عن ضحية أخرى ليكمل معها مشوار انحرافه.
وحين تُعرف هذه المرأة في ذلك، ويشيع أمرها بين الناس أنها من أهل المعاكسات وتردّي الخلق، يكون ذلك عائقاً من أن يتقدم أحد للزواج منها، بل والمصيبة أنها لو أقلعت عن هذا الخطأ، وتركت ذلك السبيل الموحش، وتابت إلى الله، فإن الصورة القديمة غالباً ما ترسخ في أذهان الناس، وتترك انطباعاً سيئاً في نفوسهم فيستمر الإعراض عنها، والبحث عن سواها.
والواقع أنه في كثير من المجتمعات الطيّبة المحافظة، إذا انحرفت الفتاة فإن ذلك يتسبب في الإعراض عنها وجلوسها بغير [زواج] إلى سن متأخرة، على الأقل في مجتمعها الذي تعيش فيه.
وذلك.. أن الرجال ـ وحتى المنحرف منهم ـ إذا فكّر الزواج لا يفكّر إلا بامرأة ذات سمعة طيبة وسلوك حسن ليرتبط به، وأما الأخرى فإنه أصلاً لا يفكّر مجرد التفكير أن يتزوجها، وأن يجتمع معها تحت سقف واحد.
وليت المأساة تنتهي عند هذا الحد، لكن المصيبة أن انحراف واحدة يعود بالضرر على غيره، وذلك أنه في بعض المجتمعات إذا كانت هذه المنحرفة لها أخوات، فإن انحرافها يؤثر على أخواتها، ويتسبب في تأخير زواجهن، وإعراض الرجال عنهن، حتى ولو عُرِفن بالاستقامة وحسن الخلق.
وذلك أن الرجل إذا أراد أن يتقدم لهذه الفتاة الطيبة تذكّر صلتها الوثيقة بأختها المنحرفة، وأن هذه المنحرفة ستكون خالة لأولاده، فهذا يجعله يحجم عن فكرة الزواج، والبحث عن امرأة في بيت آخر.
ولعل هذا الانحراف يستمرّ فتتسبب تلك الضائعة بعنوسة أخواتها، أو على الأقل بتأخير زواجهن بسبب طيشها وغفلتها عن العواقب الوخيمة الناتجة من جرّاء فعلتها المشينة، وهذا موجود، وليس بدعاً من الأمر، بل هو مشاهد في المجتمعات الطيّبة التي ما زالت تحتفظ بأصولها العريقة وأخلاقها السامية.
لذلك فإن الواجب على المرأة أن تقدر خطورة هذه الخطوة، وتحذر من الوقوع فيها، وتبتعد عن الطريق الذي يؤدي إلى هذه النتيجة المؤلمة، فتجر الحسرات على نفسها وعلى غيرها..
حسرات مـا إلى رد مثلهـا سبيل ولو ردّت لهان التحسّر
ولتعلم الفتاة علماً يقيناً أن السمعة الطيّبة والسيرة الحسنة لها دور كبير، بل ومن أعظم الأمور المؤدية لتيسير زواجها، لأن الكثير من أهل الغيرة إذا أراد أن يتزوج لا يقدم إلا على امرأة صاحبة خلق يثق بها، ويعلم أنها تحفظ غيبته عنها وكأنه عندها.
وهذه من خير النساء كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك حيث قال فيما صَحَّ عنه: "خير النساء من تسرك إذا أبصرت، وتطيعك إذا أمرت، وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك"[15].
ولذلك فلتسعَ المرأة إلى هذه المنزلة العالية، ولتحذر من الطرق المخالفة التي تبعدها عن ذلك المبلغ العظيم والسلوك والقويم.
الإعراض عن التعدد..
ونعني بالتعدد هنا تعدد الزوجات، الذي أصبح من الحاجات الملحّة والمتطلبات المهمة، خصوصاً في وقتنا الحاضر، بل إن الإعراض عن هذا الأمر من الأسباب الرئيسة في جلوس كثير من النساء بغير زواج، لأننا في وقت كثر فيه النساء، وقلَّ فيه الرجال، والتركيبة السكانية في أغلب البلدان تشير إلى ذلك، والواقع الذي نعيش فيه خير شاهد على هذه الحقيقة.
فإذا كان الأمر على هذا الحال فماذا عسانا أن نفعل تجاه هذه المشكلة، وما هو الحل لقضية النساء اللاتي جلسن بغير زواج؟.
إن في هذا الوقت الذي كثر فيه النساء حتى صار عددهن أضعاف عدد الرجال، أصبح الحل اللازم والدواء الناجع لهذه القضية هو: (تعدد الزوجات)، كيف لا..؟ وربنا عز وجل يقول ـ وهو أعلم بمصلحة الخلق ـ: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم}[16].
وهذا الحل ليس ببعيد، ولا صعب المنال، بل هو متناول الأيدي، ولكن لوقوف بعض التيّارت منه موقف المهاجم تصوّره البعض مشكلة وليس حلاً.
ومع تعدد هذه التيارات، وعمل كل منهما على جانب، فإن محصول هذه الأعمال المكثفة يؤدي إلى نفس النتيجة، والوقوف منها موقف الخائف.
ومن هذه التيارات التي رهبت من مسألة التعدد، وصوّرتها شبحاً مخيفاً في أعين الناس: (الإعلام)، وذلك لدوره البارز في التأثير وسرعة الانتشار، من خلال الأفلام والمسلسلات الهابطة التي تصور الخلاف القائم بين الجارات!! وما يؤدي إليه هذا الخلاف من تشتت الأسرة، وجنون الزوج، وعدم قيامه بالعدل بين زوجاته، وغير ذلك من المقولات المزيفة.
وأحياناً يكون عن طريق الصحافة وبعض الأقلام المسمومة التي تحارب هذه السنًّة محاربة شديدة، عن طريق السخرية والاستخفاف، بل والاعتراض على هذا الأمر المشروع..
ويتبع هؤلاء الناعقين الكثير من المخدوعين، فيقفون من هذه القضية موقف الرفض القطعي.
كل ذلك بسبب ما يُنقل وما يُكتب عبر وسائل الإعلام المؤثّرة.
ومن ردود الفعل لذلك التأثير القوي، أن كثيراً من النساء بالرّغم من تقدمها في العمر إلا أنها ترفض أن تتزوج من رجل متزوج، وهذا مما يزيد الأمر تعقيداً، لأنها إذا وصلت إلى هذا السن فإن فرصتها في الزواج تكون ضئيلة إلى حًدٍ ما.
فلو رضيت برجل متزوج لكان خيراً لها وأفضل من الجلوس بغير زواج، خصوصاً إذا كان الرجل ممن ترضى دينه وخلقه، وعنده القدرة على القيام بحقوقها.
ولكن مع الأسف..
فبسبب هذا التشويه الشنيع لمسألة التعدد، فإن بعض النساء تخاف الإقدام على هذه الخطوة، فتفضل الجلوس بغير زواج على أن تتزوج برجل متزوج، وهذا لقصر النظر، وعدم الإحاطة بالموضوع من جميع أطرافه، وعدم تلمّس الفوائد الناتجة عن التعدد والعائدة عليها وعلى غيرها.
وأحياناً يكون السبب في الإعراض عن هذه القضية هو الرجل نفسه!!..
وذلك أن بعض الرجال بالرغم من استطاعته الجمع بين أكثر من زوجة، ومع وجود القدرة على العدل، إلا أنه لا يفكّر أن يتزوج على زوجته الأولى، لعل ذلك يرجع لتصوّره بأن الزواج من أكثر من واحدة أمر صعب ومتعِب، وهو ليس كذلك، خصوصاً إّذا كان الإنسان مستطيعاً ومحكِما لقضية القوامة، فإن ذلك مما يعود عليه بالنفع والراحة، وذلك لما يجنيه من ثمار الطاعة، والبعد عن المعصية والنظر الحرام، واتباع الشهوات بسبب الاستعفاف بهذا الأمر المشروع.
ثم إذا بقي كل رجل على زوجة واحدة فمن لتلك المرأة التي تقدّم بها العمر وقد جلست بغير زواج، مُثْقلة بالهموم، محمّلة بالآلام بسبب حرمانها من ذلك الأمر الذي طالما حلمت به، وباتت تنتظره بفارق الصبر؟؟.
لذلك فإن أصحّ وأعظم الحلول على الإطلاق لقضية العنوسة هو: (تعدد الزوجات)، وذلك لتفاوت النسبة بين عدد الرجال وعدد النساء الذي زاد، وسيزداد حتى يتبع الرجل الواحد أربعون امرأة، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "ويُرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلذن به، من قِلَّة الرجال وكثرة النسـاء"[17].
فلا بد من إدراك القضية ـ تفاوت النسبة ـ، ومعرفة أن التعدد هو الحل الأسلم، وكلٌ يعمل من جانبه ليساهم في حل هذه المشكلة، وعلى الرجل خاصة أن يعمل من جانبه، وأن لا يكتفي بامرأة واحدة إذا كان مكملاً للشروط المطلوبة للتعدد.
المحــطــة الأخــيرة..
وعند هذه المحطة نتوقف لنعيد النظر فيما ذُكر من الأسباب، ونبحث عن أسباب الخلاص لكثير من النساء اللاتي وقعن في المأزق وأعيتهن الحيلة.
ولنوضّح الصورة أمام بعض النساء اللاتي على حافة الوقوع في هذه الأسباب، حتى يتراجعن قليلاًً إلى الوراء، ويُعِدن الحسابات قبل مضي أعمارهن.
ولننير الطريق أمام كل من يهمه مصلحة هؤلاء النساء، حتى يرى الأمر واضحاً جلياً، فيضع الأمور في نصابها الصحيح.
ويجب علينا جميعاً أن نقف وقفة صدق تجاه هذه القضيّة الشائكة حتى نعالجها قبل فوات الأوان، "فالعمر هو مدة سفر الإنسان في هذه الدار إلى ربه، ثم قد جعلت الأيام والليالي مراحل في السفر.. فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر، فالكيس الفطن هو الذي يجعل كل مرحلة نصب عينيه، فيهتم بقطعها سالماً غانما، فإذا قطعها جعل الأخرى نصب عينيه، ولا يطول عليه الأمد فيقسو قلبه، ويمتد أمله، ويحصر بالتسويف والوعد والتأخير والمطل، بل يعد عمره تلك المرحلة، فيجتهد في قطعها بخير ما بحضرته، فإنه إذا تيقن قصرها وسرعة انقضائها هان عليه العمل، فطوعت له نفسه الانقياد إلى التزود، فإذا استقبل المرحلة الأخرى من عمره استقبلها كذلك، فلا يزال هذا دأبه حتى يطوي مراحل عمره كله، فيحمد سعيه، ويبتهج بما أعده ليوم فاقته وحاجته"[18] ولذلك فإن من الواجب على الإنسان أن يستغل كل مرحلة من مراحل حياته، ويخرج منها بنتيجة مثمرة.
وعلى المرأة المعينة بموضوع البحث أن تتأمل في هذا جيداً، وتتنبه لنفسها، وأن لا تقدم على الزواج شيئاً من الأمور التي تعود عليها بالضرر، كالدراسة المطولة والوظيفة والمثالية الحالمة، مما تملك تغييره أو التنازل عنه.
أما ما خرج عن إرادتها ونطاق استطاعتها، وفرض عليها بغير اختيار منها فعليها بالدعاء والتضرع إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يغير حالها، ويكشف عنها الغمة، فإنه هو القادر سبحانه على أن يبدل الأحوال، ويكشف الكروب، قال ـ تعالى ـ: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم}[19].
نسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله عملاً نافعاً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
29/8/1414هـ