فضل عشر ذي الحجة.. وأحكام الأضحية
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد..
فإن الله سبحانه قد أعظم على عباده المنة أن يسر لهم سبل الخير، وجعل لهم مواسم يزدادون فيها من الأجر وأعمال البر، ومن هذه المواسم أيام العشر الأول من شهر ذي الحجة، التي أظلتنا هذه الأيام، والتي فضلها الله سبحانه على سائر الأيام، وضاعف فيها الأجر لمن عمل صالحا.
ولتعظيم هذه الأيام المباركة فقد أقسم بها الرب سبحانه وتعالى ـ ولا يقسم إلا بعظيم ـ فقال تعالى: {والفجر * وليال عشر}.
قال ابن عباس وابن الزبير وغير واحد من السلف: المراد بها عشر ذي الحجة.
كما أنه قد ثبت فضلها في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام" يعني: أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع بشي من ذلك".
فهذا الحديث المبارك يشحذ همم الصالحين للإكثار من أعمال الخير، والتزود من البر والتقوى، ودليل على مضاعفة الأجر وعظيم امتنان الله على من عمل صالحا في هذه الأيام، حتى إنه لا يفوقه أحد إلا مجاهد خرج بنفسه وماله فقتل شهيدا في سبيل الله وذهب سلاحه ومركوبه.
ـ ومما يستحب فعله هذه الأيام الإكثار من ذكر الله عز وجل، وفضائل الذكر كثيرة.
جاء أناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله: "ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "أوَليس قد جعل لكم ما تصدقون؟!، إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة؟" قالوا: يارسول الله أيأتي أحدنا شهوته فيكون له فيها أجر؟! قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر"".
وقال صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان ربي العظيم".
وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن تسره صحيفته يوم القيامة فليكثر من الاستغفار".
وقال تعالى: {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات}.
قال ابن عباس:"الأيام المعلومات: أيام العشر".
ـ وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبّران ويكبر الناس بتكبيرهما.
ولا يعني ذلك جواز التكبير الجماعي لأنه من البدع المنكرة، ولكن يكبر كل واحد على حدة.
وهذا التكبير مطلق في أي وقت، ولا يلتزم بوقت معين، فإذا دخل يوم عرفة فإنه يكبر عقب كل صلاة، من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، وهذا هو التكبير المقيد بوقت، وقد ورد ذلك عن علّي وابن عمر رضي الله عنهما.
وأما كيفية التكبير فهي أن يقول: الله أكبر الله أكبر، لا اله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، جاء ذلك عن عمر الفاروق وابن مسعود رضي الله عنهما.
ـ ومما يستحب فعله في هذه الأيام الإكثار من الصوم، فإن استطاع صيام (التسع من ذي الحجة كلها) فهو خير وفضل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا".
ومن لم يستطع صومها جميعا فلا يبخل على نفسه بأجر صيام بعض أيامها فقد جاء في الحديث عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاث أيام من كل شهر".
وعموما فالصوم يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه العشر..".
وقد بين أهل العلم أنه "لا نزاع في استحباب صوم عشر ذي الحجة" ويقصدون بذلك التسع لأن العاشر يوم العيد وصيامه حرام لا يجوز، وقد سئل الشيخ عبدالعزيز بن باز ـ رحمه الله ـ عمن زعم أن صيام عشر ذي الحجة بدعة، فقال: "هذا جاهل يعلّم، فالرسول صلى الله عليه وسلم حض على العمل الصالح فيه، والصيام من العمل الصالح" اهـ.
ـ ومما يستحب فعله في هذه العشر صيام يوم عرفة، لما جعل الله سبحانه وتعالى في ذلك من الأجر العظيم، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة؟ فقال: "يكفر السنة الماضية والباقية".
وهذا الاستحباب في حق غير الحجاج، وأما الحاج فلا يصوم يوم عرفه لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في عرفة مفطراً، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الأتقى والأخشى لله، ولو كان خيرا لسبقنا إليه.
ـ ومما يسارع إليه العبد في هذه الأيام الحج إلى بيت الله الحرام، وهو فرض مؤكد وواجب على الفور لمن استطاع إليه سبيلاً، قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}.
فمتى ما ملك العبد النفقة الكافية والقدرة على الحج في البدن وأمن الطريق وجب عليه الحج ولا يجوز له تأخيره، قال صلى الله عليه وسلم: "تعجلوا بالحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له".
فأنت اليوم نشيط قادر مستطيع، ولا تدري بما تحمله الأيام من غيب اختص الله سبحانه بعلمه، فلعل القادر يعود عاجزا؟ والغني يعود معوزاً؟، فالأمور بيد الله سبحانه.
فكيف بالعبد إذا ذهب للحج يريد قضاء فرضه ومغفرة ربه، ووافق ذلك موسما عظيما للتزود من الطاعات، قال صلى الله عليه وسلم: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه"، لا شك أنها منتهى المنة والفضل من الله سبحانه: {وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}.
ـ وبالعموم فإن المسلم يستحب له أن يكثر من كل عمل صالح دون التقيد بنوع معين، فإنما هو موسم لجني الأعمال الصالحة، فليسارع المسلم إلى التزود منها بما يستطيع من البر والصلة وعيادة المريض، والتوبة إلى الله من التقصير في ترك الواجبات وفعل المحرمات، والابتعاد عن مجالس السوء، واتباع الجنائز، والدعاء والتضرع إلى الله عز وجل، والإكثار من نوافل الصلوات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك مما دلت على فضله النصوص الشرعية.
ـ ومن الشعائر التي ينبغي للمسلمين أن يحافظوا عليها في هذه الأيام المباركة (ذبح الأضاحي)، تقربا إلى الله عز وجل.
فالذبح من العبادات التي لا يجوز صرفها إلا لله رب العالمين سبحانه، قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحيياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له}، نسكي، أي: ذبحي.
وقال سبحانه: {فصل لربك وانحر}، فمن ذبح الأضحية فقد تقرب إلى الله عز وجل بشيء يحبه ويرضاه وشرعه لعباده.
ـ والأفضل ذبح الأضحية في البلد حتى تبقى هذه الشعيرة ظاهرة، لأن المقصود من الأضحية هو التقرب إلى الله بإهراق الدم استجابة لما شرعه الله عز وجل لعباده، واتباعا لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أنس قال: "ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمى وكبر".
ـ وتجزئ الأضحية عن الرجل وأهل بيته، فقد قال أبو رافع: "إن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عنه وعن أهل بيته".
ـ ومن كان في بيت مستقل فيشرع له أن يضحي عنه وعن أهل بيته بأضحية مستقلة.
ـ والواجب على من أراد أن يضحي أن يمسك عن شعره وأظفاره فلا يأخذ منها شيئا من أول شهر ذي الحجة وحتى يضحي لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل شهر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من بشرته ولا من أظفاره شيئا".
ـ ومن لم يعرف هذا الحكم إلا بعد دخول أيام من ذي الحجة وقد أخذ من شعره وأظفاره فليمسك فيما بقي من الأيام.
ـ ويدخل في ذلك من وكّل شخصا أن يضحي عنه، فإنه يلزم صاحب الأضحية أن يمسك عن شعره وأظفاره ولا يلزم الموكَّل لأنه متبرع.
ـ والسنة: أن يضحي الحي عن نفسه وعن أهل بيته، فمن الخطأ أن بعض الناس يضحي عن أمواته ولا يضحي عن نفسه وأهل بيته، والنبي صلى الله علية وسلم ضحى عن نفسه وأهل بيته.
ـ وأما الأضحية عن الميت فإن كان قد ترك مالا وأوصى أن يُضحى عنه، فالواجب إنفاذ وصيته، وإن لم يكن قد خلَّف مال، وأراد أحد أهله أن يضحي له تبرعا فلا مانع.
على أنه لابد أن يُعرف أن الأضحية في الأصل عن الحي، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما ضحى عن أهل بيته ولم يذكر أنه ذبح عن أمواته.
ـ ولا مانع أن يَدخل الأموات في قول المضحي: "عني وعن أهل بيتي"، ففضل الله واسع.
ـ ووقت ذبح الأضحية بعد صلاة العيد، فمن ذبحها قبل صلاة العيد فلا تجزئ عنه، قال صلى الله عليه وسلم: "من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى".
ويمتد وقت الأضاحي من بعد صلاة العيد وحتى غروب الشمس في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، أي: (رابع أيام العيد).
ـ ولا تكون الأضحية إلا من بهيمة الأنعام (الغنم ـ المعز ـ البقر ـ الإبل).
ولا بد من اعتبار السن في الأضاحي، فإن ضحى من الغنم فلا بد ألا يقل سنّها عن ستة أشهر، والمعز سنة، والبقر سنتان، والإبل خمس سنين.
ـ ويقبل في هذا بقول البائع الثقة المأمون، لأن هذا خبر ديني فلا بد من تحري الصادق الثقة فيه.
ـ ولا يجوز أن يشترك أكثر من شخص ماليا بشراء أضحية من الغنم أو المعز لأن الأضحية من الغنم والمعز تكون عن المرء وأهل بيته.
أما الإبل والبقر فيجوز أن يشترك فيها سبعة أشخاص، عن كل واحد منهم (سُبع أضحية)، عنه وعن أهل بيته.
قال جابر رضي الله عنه: "نحرنا في عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة".
ـ ولا يجزئ أن يضحي بالمعيبة قال صلى الله عليه وسلم: "أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والعجفاء التي لا تنقي"، العجفاء التي لا تنقي: الهزيلة التي ليس فيها مخ.
ويجوز أن يضحي (بالهتماء) التي ذهبت ثناياها، ولكن كلما كانت أكمل كانت أفضل، (والجداء): التي نشف ضرعها.
ويكره أن يضحى بالعضباء التي ذهب أكثر قرنها، أو أكثر أذنها، ويجوز أن يضحي بالخصي، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: "ضحى بكبشين موجوئين".
ـ ومما لابد أن يعلم أنه لا يجوز لصاحب الأضحية أن يعطي الجازر أجرته منها، وإن أعطاه على وجه الصدقة إذا كان فقيراً، أو هديه فهذا جائز.
ـ كما أنه لا يجوز له أن يبيع جلدها أو شيئا من أجزائها بعد ذبحها لأنها تعينت لله.
ـ ويجوز له أن يذبح في الليل إذا لم يخل بتقسيمها، ويقسمها أثلاثاً (يأكل ويهدي ويتصدق).
ـ كما يجوز للمرأة أن تذبح الأضحية ولا مانع من ذلك.
نسأل الله أن يرزقنا الفقه في الدين، واتباع سنة سيد المرسلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.